عوامل كثيرة رسمت وما تزال ترسم المسالك والاتجاهات التي سار فيها الشعر السوري، قديمه وجديده، ما يفرض سؤالاً كبيراً متعدد الجوانب بسبب طبيعة الزمان والمكان التي فرضت نفسها على القصيدة لدينا.

مدونةُ وطن "eSyria" فتحت باب النقاش بتاريخ 10 تموز 2019 حول الشعر السوري بين القديم والجديد والتقت بعض الأدباء والشعراء في دار "الأوبرا"، والبداية مع "فخر زيدان"، الكاتب والشاعر، حيث قال: «لم يقل أحد في الشعر شيئاً، كل ما قيل في الشعر، قديماً وحديثاً، وهو كثير وكثير جداً، لكنه كلام زائل في أغلبه، لا يلبث أن يغطي عليه ويدحضه كلام جديد ومستحدث آخر، وهذا ببساطة لأنّ الشعر هو أنقى وأحدث انفعالات الحياة، ونبضها المتجدد باستمرار، لذلك هو القول الأحدث والأجمل، ودائماً نحن على موعد مع الشعر الأجمل، لذلك يبقى الشعر وعداً جميلاً، نكتبه و نقرؤه ونؤوله بحسب ترددات مشاعرنا، وتمكننا من ارتياد سراديب اللغة، واللغة ليس بقديمها وجديدها، بل بشحنتها وطاقتها وترتيبها اللعوب، أجل اللغة فتاة بكر تخفي وتخفر وتتقدم، كمهرة حرة ترفض القياد، لذلك كلما قلنا في الشعر شيئاً يأتي من يضيف ويكتشف فسحة جمال أخرى، كذلك يفعل الشعر، فهو يفاجئنا فهو خير مولّدٍ للغة، لا ينفك يرفدها بطاقات من الحيوية والجمال والعمق».

إذا ما أردنا أن نتحدث عن مقاربات و تجارب الشعراء الذين ينتمون إلى هذه الجغرافية، وعن اختلافاتهم ومساراتهم، فيجب أن نتجاوز التصنيف الجيلي أو الزمني لشعراء المرحلتين، من خلال التسميات المتضاربة في موضوع قصيدة النثر تحديداً إضافة إلى نمط التفعيلة أو العلاقة مع التراث أو القصيدة الرؤيوية أو الملحمية، المرحلة السابقة فرضت أسماءها ورموزها وتجاربها بقوة على الساحة الأدبية العربية، وطرحت الاقتراحات المستقبلية وما امتلك الشاعر المعاصر من أدوات كان فيها للمدرسة الشعرية السابقة الأثر الكبير، في العصر الحاضر كانت القصيدة حاضرة في يوميات وتفاصيل الشاعر وبأدق التفاصيل وتكاد أن تكون القصيدة رواية ذات أوزان، إضافة إلى عودة الكثير من شعراء الكلاسيك إلى دائرة التراث لما يحققه من قيمة مضافة

بينما يرى "جواني عفدال" -وهو ناقد وشاعر- فجوةً كبيرةً بين الماضي والحاضر، فالماضي له رموزه وكلماته العميقة قياساً بالحاضر الذي افتقد هذه الأشياء، قائلاً: «الشعر يبقى شعراً، ولكن الرؤى تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، ثمة اختلاف جوهري طرأ على كتابة الشعر، في الأسلوب وفي الطرح وفي المضمون، فجيل الرواد طرقوا آفاقاً في العمق وفي المبتكر من المشاعر والأحاسيس والمواضيع، وذلك عبر الأسلوب الكلاسيكي الموزون، أو الحر أو المرسل بالمزنر والتفعيلة أو النثر، له رواد ذوو شخصيات مؤثرة في المشهد الثقافي والساحة الأدبية، وكان الشعر شعراً، له جمهوره، متابعين لما يُـنشر في الجرائد والمجلات وما يُطبع في الكتب والدواوين، أو ما يُلقى على المنابر في الأمسيات الشعرية، وإلى الآن لهم وزن وسطوة، وذكرى عطرة، هذا بالأمس، ولكن اليوم اختلف الوضع واختل التقييم، وفَقَد الشعر رونقه، بما استجد من استسهال وتمييع وتماه، حين باتت المواضيع مطروقة أكثر من اللازم ولم يقدم المبتلون به جديداً، لا في الأسلوب ولا في المضمون».

جواني عفدال

لا يبتعد الدكتور "أسامة حمود" برأيه كثيراً ولكنه يضع اللوم في السنوات الأخيرة على الحرب وتأثيراتها على المفاهيم والمقاييس ودور بعض التجمعات الثقافية الأهلية حيث تركت لها مساحة واسعة بالتحرك كما تريد متابعاً: «إذا كان الحديث عن الأمس القريب، فليس ثمة اختلاف بنيوي بين شعر الأمس وشعر اليوم، لكن الاختلاف في ضوابط الشعر والحراك الثقافي عموماً، لعلنا ندرك أن سنوات الأزمة أرخت بظلالها على الحراك الثقافي وانحسر خلالها دور المؤسسات الثقافية الرسمية لمصلحة التجمعات الثقافية الأهلية التي باتت تضع ضوابطها الخاصة التي تتناسب مع توجهاتها ومآربها، واستطاع بعضها أن يكون مؤثراً يفرض ذاته ويفرض توجهاته حتى لو كانت لا تتوافق مع المقبول والموضوعي، وطغى زبد (اللاشعر) على الشعر حتى كاد يودي بالذائقة العامة التي بدأت تتأقلم مع هذا النوع من الكتابة، والأكثر غرابة أن المؤسسة الثقافية - في محاولة منها لاستمرار الحراك الثقافي خلال سني الأزمة - أتاحت منصاتها ومنابرها لأرباب الحراك الثقافي الأهلي وفقاً لضوابط الأخيرة لا لضوابطها هي، ما جعل ذلك استحقاقاً تصعب مصادرته ليأخذ لاحقاً أبعاده المؤثرة سلباً في الذائقة الثقافية الجمعية عموماً والشعرية على وجه الخصوص، على أنّنا لا ننكر هنا وجود بعض المبادرات الثقافية الأهلية التي أثبتت ذاتها وحققت طقوسها الأصيلة الخاصة وبنت نهجاً يُعتدُّ به».

تتجاوز الشاعرة "أمل المناور"، التصنيف الجيلي لكلا الزمنين ولكنها تؤكد بأنّ الكثير من الشعراء اليوم ولا سيّما الذين يتخذون الأسلوب الكلاسيكي قد تأثروا بالمدرسة القديمة، حيث تقول: «إذا ما أردنا أن نتحدث عن مقاربات و تجارب الشعراء الذين ينتمون إلى هذه الجغرافية، وعن اختلافاتهم ومساراتهم، فيجب أن نتجاوز التصنيف الجيلي أو الزمني لشعراء المرحلتين، من خلال التسميات المتضاربة في موضوع قصيدة النثر تحديداً إضافة إلى نمط التفعيلة أو العلاقة مع التراث أو القصيدة الرؤيوية أو الملحمية، المرحلة السابقة فرضت أسماءها ورموزها وتجاربها بقوة على الساحة الأدبية العربية، وطرحت الاقتراحات المستقبلية وما امتلك الشاعر المعاصر من أدوات كان فيها للمدرسة الشعرية السابقة الأثر الكبير، في العصر الحاضر كانت القصيدة حاضرة في يوميات وتفاصيل الشاعر وبأدق التفاصيل وتكاد أن تكون القصيدة رواية ذات أوزان، إضافة إلى عودة الكثير من شعراء الكلاسيك إلى دائرة التراث لما يحققه من قيمة مضافة».

أمل المناور

أما "ثراء الرومي" الشاعرة والكاتبة تجد في الشعر الحديث بأنه كسر للقوالب القديمة واختزال للمضمون بالصور والموسيقا، حين تقول: «لعل القالب الكلاسيكي كان ميزة أساسية لتقييم أي قصيدة شعرية ناجحة في الماضي، ليأتي شعر التفعيلة وقصيدة النثر وما يسمى بـ "الهايكو" الذي يختزل الفكرة بكلمات موجزة غنية بالأفكار فتحتل مساحة لا يستهان بها رغم الجدل الشديد الذي أثير بين أوساط أتباع التقليدية أو الكلاسيكية، هذه النماذج الشعرية الحديثة أخرجت القصيدة من قوالبها التقليدية لتطلق العنان للصور والتعابير فتكون أكثر انسيابية وأقل تكلفاً، بالتأكيد يبقى للقصيدة الكلاسيكية التي تستأثر قلوب الكثيرين قيمتها ودورها الذي لا تلغيه مستجدات العصر ولكن قلّة قليلة هم من يجيدون كتابتها دون الوقوع في شرك السجع وليّ عنق القافية لاستكمال شطر ما، والمؤسف في القوالب الحديثة التي تعد من السهل الممتنع أنّ الكثيرين استسهلوها فكثر المستشعرون وقلّ الشعراء مع الاحترام لمن امتلكوا ناصية الكلمة والموسيقا وحافظوا عليها في كلا القالبين».

ثراء الرومي