مرّ توثيق الموسيقا السورية بالكثير من المراحل عبر العصور التاريخية، انطلاقاً من الرُّقم الفخارية المكتشفة في أوغاريت ومنطقة ما بين النهرين إلى الفونوغراف الذي شكل علامةً فارقةً في تاريخ الانتشار الموسيقي، ثم الإذاعة التي انطلق منها معظم أعلام ورموز الفن السوري والعربي الأصيل، تلاها الكاسيت وحكاياته في ذاكرة جيل الثمانينيات والتسعينيات، وصولاً إلى وسائل الحفظ الرقمية والتخزين السحابي.

من شمال شرق سورية كانت الانطلاقة الصحيحة لكثير من الثقافات الموسيقية في الشرق والغرب، وقد تضمنت الرقم الفخارية المكتشفة في منطقة ما بين النهرين رسوماً لآلات موسيقية متعددة الأشكال، ولمغنين وعازفين استخدموها في حياتهم اليومية، ما يدل على عراقة الموسيقا السورية، أيضاً من أوغاريت في الساحل السوري بدأت الأبجدية الموسيقية، وسافرت (النوتة) إلى مختلف أصقاع العالم، وهذه الأبجدية عُزفت بأشكال متنوعة بحسب الطقوس الموسيقية الخاصة بكل دولة، مراحلٌ عديدة مرت بها الموسيقا السورية وتطورت معالمها عبر القرون، حتى وصلت للمرحلة الغنائية العربية، ولمعت بها أغانٍ سورية، وظهر موسيقيون سوريون وكُتاب وملحنون ومطربون ومطربات، خلقوا حالةً من التميز لموسيقانا على وجه الخصوص.

تم إدراج درس بعنوان "أوغاريت"، تحدثنا فيه عن اكتشاف الرقيم (H – 6) الذي نُقشت عليه أقدم القطع الموسيقية المدوّنة في العالم، والتي تعود للألف الثاني قبل الميلاد، يحمل الجزء العلوي منه ما يسمى بالأغاني "الحرانية"، ويبلغ عددها ستاً وثلاثين أغنية حُفرت بالخط المسماري، والجزء السفلي منه كان عبارةً عن نوتات خاصة للأناشيد التي تبين أنها لحنت تضرعاً للآلهة، وإحداها تم العثور عليها بشكل شبه كامل، ما جعلها المثال الأقرب للتدوين الموسيقي في العالم، وفي مختلف الدروس بيّنا الطريقة التي اعتمدها كل باحث لفك الرقيم، والوصول إلى اللحن وغنائه، كذلك تناولت دروسنا تاريخ الأغنية السورية وتطورها، ووضعنا عدة نماذج مسموعة بلغات مختلفة منها السريانية والآشورية وغيرها

يرى المايسترو "نزيه أسعد" الذي التقته مدوّنة وطن أنه «بعد أن اخترع "أديسون" في نهاية القرن التاسع عشر آلة الفونوغراف، وبعد وصوله للمنطقة العربية من خلال التبادل التجاري والاجتماعي، وحصراً عند وصوله إلى "لبنان"، بدأت حالة التوثيق وتنظيم الأعمال الغنائية العربية عموماً والسورية على وجه الخصوص، والحقيقة أن الكثير من الموسيقيين السوريين سعوا من خلال الفونوغراف إلى توثيق أعمالهم للحفاظ عليها ونشرها بين الأوساط المختلفة وهذا ما سمح للكثير من الأعمال أن تصل إلينا من المصدر الذي لحنها وسجلها، ومنها أعمال "أبو خليل القباني" السوري الذي ابتدع ألحانه في المرحلة التي واكبت اختراع الفونوغراف، وقد وُثقت بعض أعماله في مصر بعد أن خرج من سورية، من خلال تسجيلها كصوت ولحن، وهنا ندرك أهمية هذا الاختراع من خلال حفاظه على مصداقية اللحن المسجل عن طريقه، فنجد أن الكثير من المؤلفات الموسيقية العربية منها والسورية انتظمت وتوثقت، وبالتالي ثقافة الاستماع لدى الناس انضبطت، والأعمال الموسيقية بقيت راسخةً في ذاكرة المستمعين والذواقين، والأهم من ذلك هو وصول هذه الأعمال الخالدة إلى الأجيال بشكلها الصحيح، وهذا ما أكد أهمية وضرورة ظهور الفونوغراف في تلك الفترة».

رُقم موسيقية

بدأ جهاز الراديو يحجز لنفسه مكانةَ الصدارة في بيوت السوريين، خاصةً بعد انطلاق إذاعة "دمشق" في أربعينيات القرن العشرين، فكانت موطناً للمبدعين على مدى تاريخها العريق، واستقطبت المواهب الغنائية من خلال ما سمي بالأندية الموسيقية، فخصصت ليلةً لكل نادٍ من الأندية المعروفة في كل من "دمشق" و"حلب"، يقدم كل واحد منها إنتاجه الفني على فترتين، الأولى قبل نشرة الأخبار والثانية فترة السهرة وتستغرق ساعةً من الزمن، وبالإضافة لاستقطابها المواهب الغائية اهتمت الإذاعة السورية بالتراث الفني السوري، كما ساهمت بازدهار الأغنية السورية والعربية، ومنها كانت الانطلاقة لكبار نجوم الغناء والفن منهم "ماري جبران" و"نجيب السراج" و"رفيق شكري" و"فايزة أحمد" و"نهاوند" و"وديع الصافي" و"فيروز" وغيرهم الكثير.

ولطالما شكلت الإذاعة عاملَ جذب لبعض شرائح المجتمع لاقتناء جهاز راديو، لعب دوراً غايةً في الأهمية في الحياة الاجتماعية، فاقتناه المقتدرون مادياً، وأصحاب المقاهي والحمامات والمطاعم والحلاقون، ورويداً رويداً دخل بيوت السوريين، فتجمعت حوله العائلات والأصدقاء في سهرات يومية للاستماع إلى السهرات الغنائية المباشرة التي كانت تسجل في استديوهات الإذاعة، أو التي كانت تنقل على الهواء مباشرة، وعلى الرغم مما تبع الراديو من تطور في أدوات الاستماع الموسيقي إلا أنها لم تتمكن من سلبه هذه الجماهيرية التي ما زال يتمتع بها حتى هذا اليوم.

الإذاعةُ وحدها لم تعد تروي شغف اليافعين والشباب، حيث أصبح لكل منهم موسيقاه ومطربه المفضل، وهنا بدأت تظهر أشرطة الكاسيت بكثرة، بل وبدأ محبو الفن والغناء يتفاخرون فيما بينهم بما يمتلكون من مجموعات متنوعة من الأشرطة، وبعضهم عمل على مدى عشرات السنين على جمع كنزه الموسيقي الذي يتألف من مئات الأشرطة وما يزال يحتفظ بها حتى الآن، المطرب "سومر نجار" يتحدث عن مكتبته الموسيقية الغنية فيقول: «منذ سنوات طويلة عملت على جمع أشرطة الكاسيت والفيديو وأحتفظ حالياً بمجموعة هائلة منها، بل وأستمع إليها حتى الآن على الرغم من تطور وسائل الاستماع، لكن هناك بعض التسجيلات القديمة لكبار المطربين قد لا نجدها بسهولة، ولذلك حرصت على اقتنائها لحفظ هذا الفن والتراث العريق، أيضاً ما زلت أحتفظ بأشرطة فيديو خاصة بمشاركتي في برنامج استديو النجوم في تسعينيات القرن الماضي، حينئذٍ لم نكن نعيش عصر الفضائيات والتكنولوجيا، فقام والدي بنسخ الحلقات على شريط فيديو ما زلت أحتفظ بها، على الرغم من إعادة حفظها وتوثيقها حالياً عبر قناتي على يوتيوب، إلا أن لمشاهدتها من خلال شريط فيديو قديم متعةً خاصة، وكأستاذ للغناء الشرقي أسعى دائماً لتعريف طلابي على تراثنا الغنائي وأدوات الاستماع إليه، التي على الرغم من بساطتها وقدمها إلا أنها تشكل جزءاً من التاريخ الموسيقي لبلادنا».

مع بداية الألفية الجديدة وخلال عقدها الأول أخذت أشرطة الكاسيت تتراجع لتحل محلها الأقراص الليزرية (CD) ثم أقراص الـ (DVD)، والتي يمكن من خلالها حفظ ما يزيد على مئة أغنية دفعةً واحدة، ثم ظهرت هناك أدوات أكثر تطوراً يمكن من خلالها حفظ المئات من الملفات الموسيقية بصيغ متعددة، مع إمكانية حذفها والنسخ مكانها، إلى أن وصلنا إلى عصر الإنترنت والسرعة الهائلة التي حققها في طلب أي أغنية والاستماع إليها من خلال أجهزة الهاتف المحمول والتي يمكن أيضاً تخزينها بواسطة ما يسمى بالتخزين السحابي.

ومع كل هذا التطور التكنولوجي الهائل لوسائل الاستماع الموسيقي، ووجود شريحة هائلة من الأجيال الناشئة والشابة التي لا تعرف شيئاً عن تاريخ "سورية" الموسيقي القديم والعريق كونها الأرض التي انطلقت منها الأبجدية الموسيقية الأولى في العالم، استدعى ذلك اهتماماً من قبل وزارة التربية أكدته أ."نبوغ أيوب" منسقة مادة التربية الموسيقية خلال حديثها عن جهود الوزارة في توثيق هذا التاريخ الغني، تقول: «تم إدراج درس بعنوان "أوغاريت"، تحدثنا فيه عن اكتشاف الرقيم (H – 6) الذي نُقشت عليه أقدم القطع الموسيقية المدوّنة في العالم، والتي تعود للألف الثاني قبل الميلاد، يحمل الجزء العلوي منه ما يسمى بالأغاني "الحرانية"، ويبلغ عددها ستاً وثلاثين أغنية حُفرت بالخط المسماري، والجزء السفلي منه كان عبارةً عن نوتات خاصة للأناشيد التي تبين أنها لحنت تضرعاً للآلهة، وإحداها تم العثور عليها بشكل شبه كامل، ما جعلها المثال الأقرب للتدوين الموسيقي في العالم، وفي مختلف الدروس بيّنا الطريقة التي اعتمدها كل باحث لفك الرقيم، والوصول إلى اللحن وغنائه، كذلك تناولت دروسنا تاريخ الأغنية السورية وتطورها، ووضعنا عدة نماذج مسموعة بلغات مختلفة منها السريانية والآشورية وغيرها».

وعلى الرغم من الجهود المبذولة سواء من قبل وزارة التربية أو بعض الجهود الفردية لعدد من الباحثين والفنانين، إلا أن الاهتمام بحفظ هذا التاريخ التراثي الفني لـ سورية" لا بد أن يلقى اهتماماً أوسع من قبل بعض الجهات الرسمية كوزارة الثقافة ووزارة الإعلام ومن قبل دار الأسد للثقافة والفنون والمراكز الثقافية، حفاظاً عليه من الاندثار في عصر الثورة التكنولوجية الذي نعيشه وأدواته اللا محدودة.