بحجارته السوداء ومئذنته ذات الشكل المميز، يظهر جامع "الفضائل" كأحد الشواهد على تاريخ مدينة "حمص" القديم، ليؤكدَّ اسمها "أم الحجارة السود".

مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 12 آذار 2019، زارت مقر الجمعية التاريخية في مدينة "حمص"، والتقت "محمد غازي حسين آغا"، وهو باحثٌ ومؤرخٌ لتاريخ مدينة "حمص"، فحدَّثنا بدايةً عن تسمية المسجد، فقال: «يعدّ من أقدم المساجد ضمن أسوار مدينة "حمص القديمة" ومن أهمِّها، ويقع في حيِّ "بستان الديوان" الأثري، وقد سمِّي بهذا الاسم نسبة إلى الشخص الذي بناه ويدعى "شهاب الدين علي أبي الفضائل"، ويعدّ المسجد الجامع في ذلك الحي الذي تقطنه أسرة "آل طليمات"، حيث كان لها حقُّ الإشراف عليه بكل ما يلزم، فمنهم المتولي الشرعي والناظر على المسجد والوقف الخاص به، وكذلك الإمام والخطيب والمؤذن والفرَّاش. والأبيات الشعرية المنقوشة على لوح حجري فوق بابه تؤرخ ما سبق، حيث كتب فيها:

المنطقة التي يقع فيها المسجد هي قلب مدينة "حمص" القديمة، ومن يتجول في تلك الحارات، فإنه يجد العديد من المساجد المتشابهة بالبناء إلى حدٍّ كبير، وكذلك يرى تقارب الكنائس الأثرية مع تلك المساجد، ومنها مثلاً كنيسة "الأربعين شهيداً"، ودير القديس "مار اليان الحمصي"، وغيرها، وهذا يدلُّ على حالة التعايش الاجتماعي التي كانت سائدة في تلك الأزمنة وما زالت حتى أيامنا هذه

ألا إنًّ هـــذا مســجدٌ قد أقـــامــه على أسس التقوى أبو الفضائل

الباحث والمؤرخ محمد غازي حسين آغا

عليٌ شهاب الدين ذو العلم والتقى له نسبٌ يسمو على كلِّ فاضل».

ويضيف "محمد غازي حسين آغا" في وصف عمارة المسجد، ويقول: «شيِّد مسجد "الفضائل" من الحجر الأسود المصقول بطريقة يدوية بسيطة، ومدخله موجّهٌ إلى جهة الشرق، وله رواقٌ عريض ومرتفع على شكل قوس نصف دائري، وله مصطبة من جهة اليمين واليسار، وفي وسطه بابٌ يفضي إلى صحن المسجد له ساكف (جسر) مصنوعٌ من قطعة حجر واحدة كبيرة، وإلى الشمال من المدخل نجد المصلى الصيفي المكشوف، الذي يرتفع عن مستوى صحن المسجد بعدة درجات، ومن جهة الجنوب يقع مدخل الحرم، حيث عليه ساكف مقوَّس الشكل ومشيَّد من الحجر الأسود والرخام المتناوب، وعليه صنجات (زخرفات) فنية جميلة تدل على الفن المعماري المتبع في تشييد المسجد، ومحراب المسجد يقع وسط الجدار الجنوبي للحرم، وهو مرتفع نسبياً وذو تجويف واسع على شكل نصف قبّة، وعند الباب الرئيس من الجهة الشرقية يوجد سبيل ماء له جرن محفور من الحجر الأسود».

وعن المئذنة ذات الشكل المميز يتابع "محمد غازي حسين آغا" شرحه قائلاً: «كأغلبية مساجد "حمص" الأثرية، فإننا نشاهد المئذنة ذات الضلوع المربّعة، وقاعدتها مبنية بعدة مداميك من حجارة سوداء كبيرة الحجم، وتعد من المآذن المرتفعة نسبة إلى غيرها، وفي داخله درج لولبي يوصل إلى الشرفة العلوية، التي لها أربع نوافذ واسعة من كافة الجهات. أمَّا قمة المئذنة، فتعلوها قبة بصلية الشكل تستند إلى قبة دائرية ولها ثماني نوافذ، وعلى جوانب جسمها الخارجي نلاحظ وجود الرقش المملوكي البسيط، الذي كان سائداً خلال المدة التي حكم فيها المماليك؛ وهو ما يؤكّد المرحلة التاريخية التي بني فيها المسجد، واللوحة الموجودة في بداية جسم المئذنة تشير إلى تاريخ تجديد بنائها على يد "بهادر بن لؤلؤ الكردي"؛ وذلك في عام 730 هجري».

وكمؤرخٍ له العديد من المطبوعات الخاصة عن تاريخ مدينة "حمص" قال: «المنطقة التي يقع فيها المسجد هي قلب مدينة "حمص" القديمة، ومن يتجول في تلك الحارات، فإنه يجد العديد من المساجد المتشابهة بالبناء إلى حدٍّ كبير، وكذلك يرى تقارب الكنائس الأثرية مع تلك المساجد، ومنها مثلاً كنيسة "الأربعين شهيداً"، ودير القديس "مار اليان الحمصي"، وغيرها، وهذا يدلُّ على حالة التعايش الاجتماعي التي كانت سائدة في تلك الأزمنة وما زالت حتى أيامنا هذه».

"عيسى جريج" مهندسٌ معماري تحدَّث عن البنية العمرانية للمسجد، فقال: «من خلال عملي الهندسي في أحياء "حمص" القديمة وبعض المساجد والكنائس، يتضّح لمن يعاين عن قرب التصاميم الهندسية المتقنة، التي كانت تراعي البيئة الاجتماعية المحيطة، وطبيعة التربة التي بنيت عليها، بما يخدم ديمومة البناء إلى قرونٍ عديدة من الزمن، وهذا يتجلَّى في الأساسات المدَّعمة بالصخور السوداء القاسية والكبيرة الحجم، والمرصوفة بطريقة معمارية متميزة تلبي الهدف الموضوع عند التشييد، وحتى المئذنة المربعة الشكل والعالية، فإننا نلاحظ تأسيسها ورفعها على قطعٍ صخرية ضخمة من أجل الوصول إلى أعلى ارتفاعٍ ممكن، وهذا الفن المعماري الذي كان سائداً في ذلك الوقت، نجده في أماكن أثرية أخرى؛ وهذا يدلُّ على أنَّ المدرسة المعمارية واحدة».

أخيراً نذكر، أنَّ مسجد "الفضائل " بني عام 472 هجري والموافق 1079 ميلادي، وهو يبرز كمَعلمٍ أثريٍ وسط الأبنية الحديثة التي تحيط به، كشاهدٍ على تاريخ "حمص" القديم.