«الشعبية أقدر أحياناً، وأصدق في التعبير عن اللحظات المعاشة، وعما يجول في الخاطر، وهي أكثر التصاقاً بالواقع المعاش، وأكثر فطرية وخصوصية، ولنأخذ هذه القطعة من التراث الشعبي السوري مثالاً»:

(تمنيتْ حالي دهبْ ... وعاصدرك قلاده... نوبه ارتكي عالنهدْ ... ونوبه عـ الوساده)، والكلام للباحث الطبيب "حمزة رستناوي".

(غنّى المنظّم قال وعد...بدمع جاري فوق الخد... بدمع جاري كالأنهار... فراق الغالي زاد الحد)

والذي أضاف: «هذا النوع من الشعر الشعبي هو الحاضن الحقيقي لثقافة مرحلة زمنية، على الرغم من أنّ أغلب الأشعار الشعبية ظلّت متداولة بشكل شفهي حتى فترة قريبة لا تزيد عن العقدين، حيث تمّ توثيق بعضها».

الشاعر الشعبي عبد الغني العثمان

إذاً إنّ القصيدة الشعبية التي أخذت دور الكاميرا، لتصف الحياة الاجتماعية المعاشة برمتها، من تصوير للأحاسيس، والمشاعر من خلال مفردات أنتجتها بيئة جغرافية معينة، تتفاوت بين البادية والريف والمدينة، لذلك كان الاختلاف بين القصيدة البدوية، عن الريفية، عن المدنية، حيث تختلف ألفاظها من بيئة إلى أخرى، كما للشعر الشعبي أغراض وأشكال متنوعة، ومتعددة من العتابا إلى العدّاويات إلى الزجل، وندلل على ذلك بعدّاوية يقول مطلعها:

(سروج الخيل يا غاوي وتقنّطر يالمعراوي

تقنطر بأراضي ريحا يا دمو عـالصخرة دبيحة

شباب وطلعت من ريحا أولهن حبي هالغالي)

ومقطع آخر بلسان عاشق يناجي الورد أن يضمّ حبيبته مستخدماً أدوات المطبخ (كالطوّاية)، و(الصحن) و(الطشت) في طبخ عشقه بقصيدة يقول فيها:

«يا ورد جوري ضمّها ..يرحم أبوها وأمها.

وكان الشهد من تمّها (صحنين) عبى و(طوّاية).

صحنين عبىّ و(طشت).. وأنا بهواها اليوم (طشت).

لقد أتعبه العشق، وأصابه الوهن الذي أضعف عزيمته فيقول: «الله يلومك يالهوى هدّيت حيلي والقوى... هدّيت حيلي يا ولفي.. تجرح وما تعطي دوا».

ويضيف أنّ عشقه أسقمه فلم يعد يرويه نبع "علّون" القريب من قرية "البارة" الواقعة غربي "معرة النعمان"

(من ولهتي كني عطشت...علّون قلبي ما روى... علّون قلبي والحشا... والدار بعدك موحشا).

وحين حلّ الإصلاح الزراعي في منطقة "معرة النعمان" كان أحد فلاحي قرية "الغدفة" عاشقاً لصبيّة من قرية "سراقب" فهام الرجل بها، وترك الجمل بما حمل، ليبقى قريباً من محبوبته، قائلاً: «(غنّى المنظّم قال وعد...بدمع جاري فوق الخد... بدمع جاري كالأنهار... فراق الغالي زاد الحد)»، ولأنّ الرجل خسر الأرض التي كانت باستلامه بسبب العشق والهيام، رد عليه حفيده "عبد الغني العثمان" رداً قاسياً بقوله:

«(غنّى المنظم قال وعد... أبو ملعون تلدّو لد).

(العالم عبتطوب أرض...وهوي بـ"سراقب" عبيطوب خد).

ومن مواضيع الشعر الشعبي الهجاء الذي كان ينظم بين شعراء القرى في لعبة ظريفة تظهر عنتريات تلك المرحلة من التحدي البلاغي واللغوي فهذا شاعر قام بهجاء أحد الأشخاص من قرى منطقة "المعرة"، فقام الأخير بالاستنجاد بشاعر ليرد له الهجاء، ففعل بقوله: «(يا قلبي صابك علّة ...من بياعين الجلّة)

(مبالي إنك زنكيل...من بيع الجلّة والتشغيل)

(ستين حرمي تكميل... على "المعرة" بتولي)».

ولأنّ الوصف من أغراض الشعر الشعبي أيضاً، فهذا شاعر يصف فرحته عند سماعه بوجود فرصة عمل تعتبر قيّمة في زمن الاحتلال الفرنسي حيث الفقر والفاقة فيقول: «(جاي عالجامع صلّي

بالي فاضي ومتخلّي

أنو "الناجي" بيقلي

تهّير على "القامشلي"

(قلي ياجاري رزقة... الفاعل بنص الورقة)

(بحضّي هالشغلة لبقة... تهيّر لنمشي بكرية)

(حسين العمر هالأمير... من الفرح رايح بيطير)

(لما جيت عليه بكير... قلي عبتسخن مي)

(خالد يا أبو قفور... قال لمريم حطّي فطور)

(طالع أمكر من خضور... تحت الراوي بينقل مي)».

وفي مقطع شعري تظهر علينا بدوية من فوق فرسها، وقد أطلقت العنان لصوتها بالقول: «(يا عمي ما ريد أنا الحضران أهل البقر والبساتين)

قلبي متولّع ويّا العربان أهل الفشك والمراتين)»، فهذه البدوية تريد أهل (الفشك والبواريد)، وربما لما تميّزت به القرى الشرقية ل"معرة النعمان" من صلابة البدو فيها، وخاصة عشيرة الموالي التي تميزت بمقاومة المحتل الفرنسي، وربما لهذا رفضت البدوية الزواج من ابن القرية المتفرغ لأبقاره وزراعاته تاركاً الشجاعة لأهلها كما قالت.

وهناك وصف جميل يرتبط بالبيئة المحلية مستخدماً ألفاظه منها كـ (البقجة) وهي ما يصرّ من المستلزمات الشخصية في قطعة قماش، وتضعها المرأة فوق رأسها، أثناء خروجها عروساً من بيت أهلها إلى بيت عريسها، فاستعار الشاعر العاشق (البقجة)، ليصرّ حبه عن أعين الحاسدين، بقوله:

(على الباب عيني... عالباب لاحارس ولابواب

يا حب لو تنطوى... يا جيب لولا تساع

لطويك طي البقج... وأقول حبي ضاع)

أخيراً مازال هناك المزيد من الأغراض والمواضيع التي تناولها الشعر الشعبي كشعر المقاومة، وشعر الثوار، ووصف المعارك، وغير ذلك الكثير الذي يحتاج إلى أبحاث متخصصة، تفيه حقّه.