تعتبر مدينة "أريحا" من المدن ذات الحضور المميز في الشمال السوري، تتمتع بمناخ تفتقر إليه العديد من المدن الأخرى، تقع على السفح الشمالي لـ"جبل الأربعين"، وتنبسط على أرض زراعية خصبة، تحيط بها الأشجار المثمرة من كل حدب وصوب، وتتلاقى فيها هيبة الماضي وإشراقة الحاضر، وتتنوع المنجزات الحضارية فيها، والتي دل عليها تنوع آثارها التي لا تزال قائمة إلى الآن، وأزقتها الضيقة، وطريقة تنظيمها الرائعة التي دلت على الدور الذي لعبته هذه المدينة في ذات يوم.

وللتعرف أكثر على حاضر وماضي هذه المدينة وأهميتها التاريخية كان لنا وقفة مع ابن "أريحا" الباحث التاريخي السيد "مصطفى سماق" ومدير مكتب التوثيق السياحي والأثري ليقول لنا: «تعود "أريحا" من حيث القدم إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، ولكن فترة ازدهارها الحضاري كانت في الألف الأولى، في العهد "الكلداني"، وهي من أشهر مدن مملكة "نوخاشي" التي قامت بين القرنين الخامس والثالث عشر قبل الميلاد، وامتازت بأنها مملكة مترامية الأطراف، ضمت "سراقب والمعرة وأبو ظهور وخان شيخون"، وكانت "أريحا" أهم مدنها، وعاصرة مملكة "أيبلا"، كما أزدهر دورها في العهد البيزنطي، بين /64/ قبل الميلاد و/330/ميلادي، ومن أهم المعالم الدالة على هذا العصر العيون الكثيرة الموجودة، والعائد بنائها إلى تلك الفترة، ومقابر القنيطرة الموجودة حالياً على طريق "جبل الأربعين"، وكنيسة قديمة موجودة معالمها في حي "الشيخ دويك"، وفي فترة العهد الإسلامي لم يقل دور "أريحا"، بل شهدت في هذه المرحلة ازدهار حضارياً كبيراً، وزاد دورها وأهميتها، وخصوصاً بالعهد "الأيوبي"، ثم "المملوكي" فـ"العثماني"، وكانت عند "العثمانيين" محظية هامة سموها بـ"الهادئة وريحاء والأريحية"، وكل هذه الأسماء تدل على العمق الحضاري لهذه البلدة، وأيضاً كانت محطة تجارية هامة على طريق حج الشمال، ولهذا فإن العثمانيين خصوها بالعناية الكبيرة الفائقة، وبمعونة مالية كبيرة قدرت ب/800/قرش من أصل معونة كل المدن الواقعة على طريق حج الشمال، والتي بلغت /8000/قرش، وامتازت أيضاً في هذا العهد بالتطور العمراني الكبير وبني فيها عدد كبير من "السيباطات" والشوارع المنظمة، وباتت تعرف بمدينة المائة "سيباط"».

أصل تسمية هذه المدينة جاء من الفعل الثلاثي "ريح"، والذي يعني الرائحة الزكية، وهو الراجح من التسمية، وذلك لاشتهار هذه المدينة بزراعات ذات روائح مميزة، وعلى رأسها "المحلب" إضافة إلى الموقع الهادئ والمريح الذي تنبسط عليه

ويضيف السماق: «أصل تسمية هذه المدينة جاء من الفعل الثلاثي "ريح"، والذي يعني الرائحة الزكية، وهو الراجح من التسمية، وذلك لاشتهار هذه المدينة بزراعات ذات روائح مميزة، وعلى رأسها "المحلب" إضافة إلى الموقع الهادئ والمريح الذي تنبسط عليه».

رئيس مجلس مدينة أريحا

كما التقينا السيد "ماجد نجم الدين" رئيس مجلس مدينة "أريحا" والذي يقول: «تقع "أريحا" في منطقة جغرافية ميزة، على الطريق الواصل بين المنطقة الساحلية والشرقية من الشمال السوري، وإلى الجنوب من مركز المحافظة، وتبعد عنه قرابة /15/ كم، وتعتبر من أهم مدن الشمال السياحية، وباعتبار مدينة "أريحا" مدينة سياحية، فهي بحاجة دائمة لمتابعة الواقع الخدمي فيها، وهي بحاجة لخدمات أخرى قد لا تحتاجها مدن لا تتمتع بالجانب السياحي كمدينة "أريحا"، ولا سيما عامل النظافة، يوجد فيها العديد من الخدمات التي ترقى للمستوى الجيد، وعلى كافة الأصعدة، فمن الناحية التعليمية فيها العديد من المدارس الابتدائية والثانوية والمهنية، يوجد فيها مركز ثقافي ويعتبر من المراكز النشطة في المنطقة، وفيها رابطة للاتحاد النسائي، كما يوجد فيها مستشفيين ومستوصف طبي، ولا ينقصها أي شيء من الخدمات، بما في ذلك شبكة هاتف وكهرباء وماء وشبكة للصرف الصحي، تنشط فيها الحركة العلمية بشكل واضح، فيها عدد كبير من الأطباء والمهندسين والمعلمين».

ويضيف: «تُعتبر من المدن الزراعية بالدرجة الأولى، نشطة فيها الحركة الصناعية في فترة من الفترات، ولكن العمل الغالب لمعظم السكان في الوقت الحالي التجارة، لا تزال مدينة "أريحا" من المدن المحافظة على العديد من المهن القديمة اليدوية، التي انقرضت أو في طريقها إلى الانقراض، والتي من أهمها "الحدادة العربية وصناعة أدوات القش والسجاد اليدوي والبسط واللباد وشد اللحف" وغيرها من الصناعات اليدوية المهمة، ومن الناحية الزراعية تشتهر بزراعة "الكرز والزيتون والتين"، إضافة إلى المادة الزراعية الأساسية التي لا توجد سوى في "أريحا" وهي مادة "المحلب"، حيث يتم تصدير هذا الصنف إلى عدد كبير من المحافظات الأخرى ويدخل في التصدير العالمي، من الجانب الصناعي فيها الكثير من معاصر الزيت، وتشتهر بالانتشار الواسع لمعامل "البلوك" و"مناشر الحجر"، وللحركة التجارية نشاط ملحوظ، ويعتبر سوق "الهال" من أكثر الأسواق المحلية نشاطاً، وخصوصاً بـ"الزيتون والتين والمحلب" والعديد من المحاصيل التي تنتشر زراعتها في المنطقة التابعة لمدينة "أريحا"».

مصطفى سماق

كما التقينا السيد "مطيع فتالة" أحد أبناء "أريحا" ومن أقدم الحلاقين فيها والذي يقول: «لا يوجد وجه للمقارنة بين الحياة الاجتماعية قديماً وحديثاً، فما كان عليه الوضع من احترام وإلفة لا يمكن أن يتكرر، مضت المودة التي كانت تجمع الناس وحل مكانها البغض والحسد، وزالت العديد من التقاليد والعادات الاجتماعية التي تشعرنا بوجودنا كبشر، وتصلُ فيما بيننا بروابط قوية، على الرغم من بساطة الحياة من الناحية المادية كان لكل شيء طعم آخر، فكانت نقاط تلاقي الناس كبيرة جداً، فالأفراح والأعراس والأحزان وأي شيء يقام في المدينة لا بد من اجتماع الناس جميعاً، أما الآن يوجد في مدينة "أريحا" عدد كبير من الجيران والأقارب لا يعرف بعضهم بعض».

ويقول السيد "فاضل سماق" أحد أبناء المدينة وعضو في فرقة الفنون الشعبية فيما مضى: «عملتُ لفترة طويلة في الماضي مع فرقة للفنون الشعبية، وكان من أهم ما يميز كل بلدة وجود فرقة من هذا الشكل، ويُعرف القائم بأمر هذه الفرقة باسم "شيخ شباب" البلدة، وهو الذي يعكس مظاهر الفرح وحسن الضيافة في البلد، وخصوصاً بالأفراح حيث يحضر الغرباء وكان محترما من كل أهل المدينة صغيراً وكبيراً، لأنهم يعتبرونه واحدا من أكثر أبناء المدينة وجاهة، وعلى عاتق الفرقة تحيى جميع الأفراح سواء الأعراس أم طهور الأطفال، حيث تقام الأفراح بمناسبة طهور الأطفال، وأيضاً في حال استقبال ضيوف وغرباء ولا سيما ضيوف رسميين، فكان لا بد من وجود الفرقة بلباسها العربي القديم، وأغانيها الشعبية التي لم يعد يعرف عنها أحد إلا القليل، وهناك العديد أيضا من العادات والتقاليد العربية القديمة عرضة للضياع نتيجة تفكك الروابط الاجتماعية بالواقع الراهن».

فاضل سماق