"البحر غدار، رزقه متلو، يوم وفير، ويوم تقتير" بهذه العبارات البسيطة المعبرة يختزل الصيادون علاقتهم مع البحر ورغم أنهم "أولاد البحر" ويعشقونه إلى درجة الوله إلا أنهم لا ينسون أنهم "أولاد الأرض" وعليهم أن يعودوا برزق إلى أولادهم وأهليهم ولذلك إن قتّـر البحر في إرزاقهم يلجؤون إلى "جاروفة الشط".

هنا في الخليج الرملي جنوبي مدينة اللاذقية قرابة الخمسين قارباً يتخذون مرسى ومرتعاً للصيد، رغم أن الخليج مفتوح في وجه الأمواج الجنوبية الغربية العاتية في الشتاء، إلا أنهم يقيمون أكثر نهاراتهم هناك صيفاً وشتاء.

يستخدم جميع الذين يصطادون بجاروفة الشط نفس الأدوات البسيطة ذاتها، ويسعون إلى الصيد في مراع مشتركة دون خصومات تذكر فالصيد إما وفير بحيث يحصل كل فرد على حصة مناسبة أو أنه قليل بحيث لا يستحق أن يختلف عليه

يشاكس الصيادون بعضهم بعضاً أن صيد "الجاروفة" حرام، فشبكة الجاروفة اليدوية تحصد قيعان الخلجان الرملية الضحلة وتكاد لا تعفي من أسرها كائناً يسبح، لا صغيرة ولا كبيرة، ولا أي حيوانات أخرى بل حتى الحشائش، ويرد صيادو الجاروفة: "إن الصياد الحقيقي المحترم يعيد صغار السمك إلى أمه في البحر". ولكنهم سرعان ما يخفضون أعينهم ويعترفون بأنهم لا يرجعونها يوم يضن البحر عليهم بالسمك! فالصيادون بهذه الطريقة البدائية الاضطرارية يحلمون بالنزول إلى السوق وفي جعبتهم ما يوفر لعيالهم حاجة يومهم فإن لم يكن فيرجعون بطبق صغير من صغار السمك من السردين أو الغبوس أو الشكارما.

تقنية الجاروفة: «يستخدم جميع الذين يصطادون بجاروفة الشط نفس الأدوات البسيطة ذاتها، ويسعون إلى الصيد في مراع مشتركة دون خصومات تذكر فالصيد إما وفير بحيث يحصل كل فرد على حصة مناسبة أو أنه قليل بحيث لا يستحق أن يختلف عليه»، هكذا يوجز الصياد "خالد حمامة" الموقف على شاطئ الرمل الجنوبي في حديث لمدونة وطن eSyria بتاريخ 2/7/2013 ويضيف قائلاً: «إن معظم الذين يرسون بقواربهم هناك هم ممن تربطهم علاقات قرابة أو جوار والصيد بجاروفة الشط يحتاج إلى عمل عضلي جماعي يتآزر فيه رجال أسر عديدة، وليس ثمة مالك بمعنى حقيقي فهم يعملون على هيئة مجموعات تتقاسم المهام والمحصول بالتساوي تقريباً».

أما كيف تنفذ "جاروفة الشط" فتناوب بالتوضيح عدد من الصيادين في صباح باكر تساعدهم مجموعة من أصدقائهم، الصياد "أحمد حمامة" أخ الصياد "خالد" وهو طالب جامعي يدرس مادة الرياضيات قال: «الحبال التي يربط بها طرفا الشبكة وبها تسحب من الماء تسمى الروضات، أما مركز الشبكة حيث يتجمع السمك فيسمى العنب لأن منظره يشبه منظر عنقود العنب، صناديق السمك اسمها الفروش، أما لف الحبال (الروضات) على البطن لسحب الشباك فيسمى "الحابوقية"، ولف الحبال والشباك لإرجاعها إلى القارب يسمى "البالص».

ويلخص الصياد "معد بديوي" مجريات عملية جاروفة الشط من البداية إلى النهاية فيقول: «يقوم العمل على رمي شبكة فسيحة في عرض الجون الرملي الضحل فيعوم أعلاها بواسطة قطع الفلين ويغرق أسفلها حتى القاع بسبب قطع الرصاص المعلقة على أطرافها السفلية، ثم يجري شد الشبكة من طرفيها بواسطة الروضتين (الحبال) من قبل فريقين من الرجال كل منهما يمسك بروضة، وهكذا تتقدم الشبكة من عرض الجون (المرفأ الصغير) بثبات جارفة في طريقها كل ما تمر به من أسماك وحشائش وسرطانات بحرية تتجمع جميعها في العنب (مركز الشبكة)».

وعن كيفية رمي الشبكة في عرض الجون بحيث يتمكن فريقا العمل من سحبها في آن واحد بصورة متوازنة، يشير الصياد "حسن فواخرجي" قائلاً: «يقع العبء هنا على القارب الذي ينقل الشبكة نحو عمق الجون بعد أن يترك إحدى الروضتين لدى أحد فريقي السحب، وعندما يبلغ البعد الذي يسمح به طول الروضة يبدأ في مد الشبكة مواجهة للشاطئ ويعود بالروضة المقابلة كي يسلمها للفريق الثاني، وعندئذ يبدأ سحب الشبكة فيلف كل صياد الروضة على خصره ويبدأ بالشد بالتناسق مع فريقه والفريق الآخر كي لا يتسبب التفاوت بين قوة الفريقين بميلان الشبكة وتسرب السمك».

ولأن الشبكة تغطي بارتفاعها هامشاً كبيراً من عمق الماء يكاد يصل إلى مترين تقريباً يكاد لا ينجو منها فرخ سمك واحد إلا ما كان حجمه صغيراً جداً ويسمح له بالهرب من فتحات الشبكة الصغيرة، وشباك الجاروفة بالأصل ضيقة الفتحات لأن السمك قرب الشطآن صغير على العموم.

وللمقارنة بين الجاروفة الكبيرة الأصلية والجاروفة الصغيرة يقول الصيادون: «إن الجارفة الأصلية هي الجاروفة التي يقودها مركب صيد سمك من روضتيها يجرف بها قيعان البحر العميقة في عرض البحر فيجمع بواسطتها كميات هائلة من السمك من مختلف الأحجام، أما جاروفة الشط (الحابوقية) التي تحز بطون الرجال وتترك بصماتها الخشنة على جلودهم، فهي جاروفة الذين يخوضون في الماء حتى أكثر من نصفهم، يشدون الحبال ويلهثون ويلعنون الحظ السيئ مع كل شبكة فارغة فهذه حرفة شقية لصيادين فقراء طوروا أنفسهم ليمنعوا عن عائلاتهم غوائل الفقر والجوع.

ولكن جميع الصيادين يحملون في أرواحهم "سوسة البحر"، السوسة التي تجعلهم لا يختلفون كثيراً عن البحر، في ملحه وأطواره وأمواجه ونشيده الآسر وفي أصالته المفتوحة دائماً على أفق بعيد وموج يتردد صداه في الذاكرة كما في الحياة والواقع».