احترفت الثمانينية "مديحة جحجاح" توليد النساء لمدة أربعة عقود، حيث تنقلت في محافظات عدة، وبرزت في العمل الإنساني في ظل الأوضاع الإنسانية المؤلمة التي فرضتها الأزمة على "سورية".

مدونة وطن "eSyria" زارت بتاريخ 20 شباط 2018، "مديحة جحجاح" في منزلها الكائن بمدينة "جبلة"، فتحدثت عن حياتها قائلة: «أنا ابنة ريف "حمام القراحلة" التابع لمدينة "جبلة"، نشأت في بيئة طيبة صادقة وأسرة كثيرة العدد، حيث كنا ست بنات وستة صبيان، وكان والداي فلاحَين، الصبيان تعلّموا؛ لأن هناك تفرقة بين الذكر والأنثى، وكانت القرية عبارة عن سجن كبير، والمرأة لا تملك الحق بشيء، وهناك قسوة عليها، لكنني تمردت على تلك الأفكار، وتعلّمت بالعزم الذي أمتلكه مواجهة العادات والتقاليد التي ظلمت المرأة.

العطاء رافق مسيرتي منذ بداية عملي الذي يقوم على التسامح والمحبة في العمل، والأزمة التي يمرّ بها بلدي "سورية" خلقت بداخلنا شخصاً معطاءً، فالأجيال التي ساهمت بتوليدها سرقتها الأزمة؛ وهذا ما يجعل قلبي يغصّ ألماً على أولئك الشبان الذي فقدوا بصرهم وأطرافهم وصور الشهداء واليتامى والأرامل؛ كل ذلك يدفعني للعمل الإنساني ودعمهم معنوياً ومادياً، وهم نفسهم كانوا يشيرون إليّ كجدتهم وأمهم حين كنت أمشي في الشارع أو أي مكان، وما زلت مستمرة بالعمل الذي أعطاني المحبة والتواصل والعلاقات الإنسانية والاجتماعية

حين كان عمري تسع سنوات، كنت مختلفة عن كل بنات قريتي؛ أساعد أمي بنقل الماء والعجن والخبز، لكن في داخلي دافع الذهاب إلى المدرسة، ويجذبني منظر الأولاد الذاهبين إليها، لكنهم كانوا يمنعونني بحجة العمل، فأنهي واجباتي في المنزل، وأذهب مسرعة إلى المدرسة، لكن ليس باستمرار».

مع مجموعة "كلنا واحد"

وعن دراستها تتابع القول: «حصلت على الشهادة الابتدائية عام 1955، كنت أرى إخوتي يتعلمون فأقول بداخلي يجب أن أتعلم مثلهم، وبعد اثنتي عشرة سنة، كبرنا وأصبح إخوتي في المرحلة الإعدادية، فقام أهلي بإرسالهم إلى مدينة "اللاذقية" ليتابعوا تعليمهم، وذهبت معهم كأمّ تدير شؤون المنزل وترعاهم، ومع مرور الوقت رأيت نسخة الصف التاسع واطلعت على المنهاج، وتساءلت إذا كان بإمكاني أن أقرأ وأنجح من دون أن يعلموا بذلك، فلغتي العربية جيدة، لكن واجهتني صعوبة بمادتي الحساب والإنكليزي، ثم نجحت في الصفين السابع والثامن، وفي نهاية العام تقدمت لامتحان الصف التاسع، ونجحت عام 1962.

ازدادت رغبتي بعد النجاح، وأحسست بالتحرر، وكنت أشعر بأن الزواج سيعيدني إلى سجن القرية وعاداتها، فقررت أن تكون لي حياة مختلفة ومرحلة جديدة».

في زيارة لأحد الجرحى

مشهد "الداية" التي كانت تزور القرية ساعد "مديحة جحجاح" في اختيار طريقها العملي، وتقول: «كانت تلفتني داية (المرأة التي تولد النساء) تزور قريتنا، حيث كنت أرى معاملة الناس الحسنة لها، وكلمات الشكر والعرفان التي يقولونها حين تنهي عملها، فتقدمت لدراسة التمريض في "دمشق" وكان عمري حينئذٍ 24 سنة، وتم قبولي، ثم تزوجت عام 1969 من طبيب الداخلية "سعيد كنعان"، الذي كان سنداً لي في حياتي من كافة النواحي.

بقينا مدة نعمل في منطقة "الضمير"، وكانت الحياة صعبة وقاسية جداً، وكنت أقدم التوعية للنساء، إضافة إلى عملي في التمريض وتوليدهنّ، ثم عدت إلى قريتي "حمام القراحلة" عام 1975، وبقيت عامين، وكنت القابلة الوحيدة في تلك المنطقة، وكانوا يأتون من قرى "جبلة" كلها، كما كنت أذهب في أي وقت لتوليد النساء، ثم انتقلت إلى مدينة "جبلة"، وحسب إحصائية أجراها زوجي كنت أولّد سنوياً 1600 ولادة، وآخر ولادة قمت بها كانت عام 2005، فهي مهنة شاقة، لكنها ممتعة ومريحة للنفس».

هيام أسعد علي

وعن قصة العطاء والعمل الإنساني تحدثت: «العطاء رافق مسيرتي منذ بداية عملي الذي يقوم على التسامح والمحبة في العمل، والأزمة التي يمرّ بها بلدي "سورية" خلقت بداخلنا شخصاً معطاءً، فالأجيال التي ساهمت بتوليدها سرقتها الأزمة؛ وهذا ما يجعل قلبي يغصّ ألماً على أولئك الشبان الذي فقدوا بصرهم وأطرافهم وصور الشهداء واليتامى والأرامل؛ كل ذلك يدفعني للعمل الإنساني ودعمهم معنوياً ومادياً، وهم نفسهم كانوا يشيرون إليّ كجدتهم وأمهم حين كنت أمشي في الشارع أو أي مكان، وما زلت مستمرة بالعمل الذي أعطاني المحبة والتواصل والعلاقات الإنسانية والاجتماعية».

أما "هيام أسعد علي" الناشطة في العمل الإنساني، وعضو في مجموعة "كلنا واحد"، فتحدثت قائلة: «تعرّفت "مديحة جحجاح" في أحد نشاطاتنا التطوعية في "جبلة"، وتأثرت بإنسانيتها وطيبتها؛ وهو ما جعلني أصمّم على وجودها الدائم في فعالياتنا التي تُعنى بالجرحى والشهداء وذويهم.

هي امرأة ثمانينية قوية ورمز للمرأة السورية المعطاءة الأصيلة، ولديها الوعي الثقافي والقلب الحنون، وقدوتنا للمتابعة بعملنا في مجموعة "كلنا واحد" بفرعيها في "اللاذقية" و"جبلة"، والرئيسة الفخرية للمجموعة، وهي بمنزلة الأم الحقيقية؛ فقد وقفت إلى جانبي أثناء استشهاد أخي، وكانت الأم والرفيقة على المستوى الشخصي، فإننا نستمد منها القوة والصبر، وأذكر أنها من المتبرعين بالكتب المتنوعة لمكتبتي العامة التي تهتم بالشأن الثقافي».

يُذكر أن "مديحة جحجاح" من مواليد قرية "حمام القراحلة" التابعة لمدينة "جبلة" عام 1939، وتتمتع بصحة جيدة، وتقوم بعملها الإنساني باستمرار.