أثارت تنقيبات السيد "جاك كوفان" والسيدة "لورين كوبلاند" في "تل أسود" على البليخ، اهتمام الأوساط العلمية في العالمين العربي والغربي، حيث ظهرت أدلة جديدة على أهمية وادي البليخ منذ أزمنة ما قبل التاريخ، وقد تبين أنَّ حوض وادي البليخ مليء بالمواقع الأثرية التي تعود لتلك الأزمنة الموغلة في القدم، إذ تبين وجود أكثر من /23/ تلاً أثرياً متناثرة على جانبيْ الوادي تخفي في ثناياها أثار عصور ما قبل الفخار، وعصور أوائل الفخار /7000-5000/ ق.م، ووجود /27/ تلاً تخفي في باطنها فخار "تل حلف" الشهير من /5500/ ولغاية /4000/ ق.م، أما مستوطنات فترة "العبيد" من /4000- 3500/ ق.م، فقد عثر على /14/ تل أثري في حوض وادي البليخ من تلك الفترة، ومن فترة العصر النحاسي عثر على سبعة تلول أثرية في حوض وادي البليخ..

إنَّ الدلائل الأولية تشير إلى وجود علاقة بين حوض وادي البليخ ومناطق شمال ما بين النهرين وحوض دجلة، ولا تشهد على وجود أي اتصال مع جنوب بلاد الرافدين ومنطقة البليخ الأدنى.. ومن خلال التحصينات الظاهرة في كل من تلي "صهلان" (صهلالا) و"جزلة"، يبدو أنهما يعودان إلى الحقبتين الثانية والثالثة من عصر البرونز القديم، ويبدو أنَّ "تل خويرة" وبعض التلال الأثرية المنتشرة على ضفتيْ نهر الخابور كانت مزوَّدة بسور داخلي وآخر خارجي في العصر نفسه "تل بيدر" ولها شكل اهليلجي، كما أنَّ وجود الفخار ذو البريق المعدني يشير، على أنَّ الشمال السوري كان يتمتع بحضارة مركزية قبل أن تصبح هذه المنطقة جزءاً من الإمبراطورية الآكادية ودولة "أور" الثالثة /2250-2000/ بوقت طويل.. لدينا بعض الشواهد الكتابية المتعلقة بوادي البليخ في مرحلة الألف الثاني ق.م، إذ يشير بعضها إلى طريق سلكها بعض الجنود في القرن الثامن عشر ق.م، ومن المؤكد أنَّ الطريق ذاتها كانت هي الطريق التجارية التي سلكها التجار وسلكتها القوافل التجارية أيضاً.. تبدأ هذه الطريق مسلكها من مدينة "لارسا" في بلاد الرافدين، وتباري نهر البليخ باتجاه الجنوب حتى مدينة "توتول"، ثم تنعطف غرباً وتنتهي في ميناء "ايمار"، مدينة "مسكنة" الحالية على الفرات الأعلى في شمال شرق سورية.. بسبب بعض الصعوبات الجغرافية التي تكتنف ضفتي نهر الفرات، فإنَّ هذه الطريق لم تكن بمحاذاة النهر كما كنا نتوقع، بل هي تنحرف بمجرد وصولها إلى نهر دجلة، كي تباريه مخترقة الأجزاء الشمالية من الجزيرة السورية، إذ أنها تمر بحواضر كبيرة وهامة مثل: "حمو كار" و"تل بيدر" و"تل خويرة"، ثم تنحدر جنوباً، كما أسلفنا، نحو نهر البليخ (طريق الشعير)، ثمة محطتان هامتان وثابتتان على هذه الطريق الملكية، هما منابع نهر البليخ في منطقة نبع عين العروس في الشمال، ومدينة "توتول" التي وصفتها رقم مدينة ماري المسمارية، على أنها ميناء نهري كبير تقع عند مصب نهر البليخ في الفرات، والمسافة بين هاتين المحطتين بمقدار /80/ كم، وعبر هذه المسافة الطويلة بين المحطتين كان الجنود المشاة يستريحون مرتين أو ثلاث مرات أثناء المسير.. كانت "صهلالا" المندثرة في ثنايا "تل صهلان" الحالي، هي محطة الاستراحة الأولى بعد "عين العروس"، وكانت "زلبا" تل "حمام التركمان" محطة الوقوف الثانية، أما في طريق العودة فإنَّ الجنود يستمرون في مسيرهم دون التوقف في "زلبا".. قبل البدء في عملية التنقيب الأثري في تل "حمام التركمان"، كان هناك اعتقاد سائد لدى بعض علماء الآثار أنَّ "زلبا" تقع في "حمام التركمان"، الذي هو غير "تل حمام" الواقع قبالة "تل جزلة".. ولمدينة "زلبا" حكاية مع مدينة "توتول" تقول: أنَّ "زلبا" التي كانت دائماً تشاكس "توتول"، كانت قادرة على تحويل قسم كبير من مياه نهر البليخ الذي تعتمد عليه مدينة "توتول" وهي "الرقة" القديمة في ري الأراضي الزراعية المحيطة بها من جهتي الشرق والشمال، وفي أتون هذا النزاع بين المدينتين، تقول الوثائق المسمارية يبدو أنَّ عشائر كانت تعرف باسم "اوبرابية" تدخلت وفضت النزاع لصالح مدينة "توتول"، وحسب العرف العشائري كانت النزاعات تحسم عن طريق ما يسمى بـالشرع.. ولو تركنا الماضي جانباً وعدنا إلى وقتنا الحاضر، فإنه بالفعل تشمل قرية "حمام التركمان" المعاصرة أراضي زراعية واسعة ترتوي من نهر التركمان "الجلاب"، الذي يتغذى بمياه نهر البليخ بواسطة السد القديم المحصور بين "تل صهلان" و"تل أسود" على الضفة الشرقية لنهر البليخ.. وفي نص مسماري قديم من القرن الثامن عشر ق.م، يروي اسم ملك مدينة "زلبا" الذي كان هو نفسه ملكاً على مدينة "حصوم" أو "حصوة"، التي تقع إلى الشمال من "زلبا" والتي لحينه نجهل مكانها.. وهناك نصوص أخرى تشير إلى وجود علاقة بين "زلبا" وبلاد الأناضول.

عين العروس المنبع الرئيسي لنهر البليخ