«يكتسب المكان أهميته التاريخية من أهمية الحدث المرتبط به، وهذا ينطبق على "صفين"، فـ"صفين" القرية الصغيرة، خلد اسمها "وقعة صفين"، وجعلتها في عداد الأوابد والهياكل الخالدة، تلهج بها الألسن، ويرددها التاريخ على مرِّ الدهور، ولولاها لمحي اسمها من الوجود، واندثرت مع ما دثره الدهر من المدن والقرى».

هذا ما قاله الباحث "حمصي فرحان الحمادة"، لموقع eRaqqa بتاريخ (26/11/2009)، في معرض حديثه عن قرية "صفين" الشهيرة.

قد توهم البعض بأن مضيق "العكيرشي" المطل على "الصراة"، التي كانت في يوم من الأيام مجرى نهر "الفرات"، تحت جبل "العكيرشي" الصخري، هو موقع "صفين" ـ علماً أن قرية "العكيرشي" من قرى "الرقة" الشرقية ـ وقد جرهم إلى هذا الوهم، وجود أثر لم يكن موجوداً قديماً، أطلق عليه أهالي "العكيرشي"، اسم قلعة "صفين"، وظنوه أنه معترك هذه الحرب، ولتأكيد هذا الوهم، حيكت الأساطير والقصص والحكايات، منها أن أحد الدراويش المغاربة، مرَّ من هذا المكان، فخلع نعليه وسار حافياً، وعلل ذلك بأنه يسير على أرض مباركة، تضم جثث عشرات الآلاف من الصحابة، وإمعاناً في هذا التوهم، وضعوا لوحة على جانب الطريق كتبوا عليها "صفين". والحال أن هذا الموقع، لم يكن في يوم من الأيام صالحاً لأن يكون معتركاً لحربٍ تقاتلَ فيها أكثر من مائتي ألف مقاتل على أقل تقدير، وذلك بسب تكوينه الطبيعي، حيث أنه منطقة كثيرة الجبال والأخاديد والأوهاد، التي لا تصلح أصلاً لسير الخيول، كما أنها لا تصلح البتة لأن تكون طريقاً تسلكه القوافل، بسبب تلك الأخاديد الكثيرة، مما اضطر الحكومات المتعاقبة، على اتخاذ طريق تحت الجبل محاذياً لـ"الصراة" المنخفضة، وما يزال هذا الطريق خطراً سلوكه، من جراء انهدام قممه على الدوام وسد الطريق، فضلاً عن الأخطار التي يتعرض لها السابلة، والقوافل أثناء الاجتياز والمرور. والأهم من ذلك، أن هذا الموقع لم يُذكر في أي مصدر تاريخي أو جغرافي، بل بالعكس تماماً، فإن الموضع الذي ذكره المؤرخون، يبعد عن هذا الموقع لجهة الغرب بعشرات الكيلو مترات، وبالنتيجة، نستطيع القول، أن ما ظنه هؤلاء وأكدوه، لم يكن سوى وهماً بعيداً عن التحقيق والتمحيص

وبسؤاله عن الخطأ الذي شاع بين العامة من الناس، فيما يتعلق بتحديد مكان القرية، وأسباب هذا الخطأ، يقول "الحمادة": «قد توهم البعض بأن مضيق "العكيرشي" المطل على "الصراة"، التي كانت في يوم من الأيام مجرى نهر "الفرات"، تحت جبل "العكيرشي" الصخري، هو موقع "صفين" ـ علماً أن قرية "العكيرشي" من قرى "الرقة" الشرقية ـ وقد جرهم إلى هذا الوهم، وجود أثر لم يكن موجوداً قديماً، أطلق عليه أهالي "العكيرشي"، اسم قلعة "صفين"، وظنوه أنه معترك هذه الحرب، ولتأكيد هذا الوهم، حيكت الأساطير والقصص والحكايات، منها أن أحد الدراويش المغاربة، مرَّ من هذا المكان، فخلع نعليه وسار حافياً، وعلل ذلك بأنه يسير على أرض مباركة، تضم جثث عشرات الآلاف من الصحابة، وإمعاناً في هذا التوهم، وضعوا لوحة على جانب الطريق كتبوا عليها "صفين".

اللوحة التوضيحية في موقع بنات أبي هريرة

والحال أن هذا الموقع، لم يكن في يوم من الأيام صالحاً لأن يكون معتركاً لحربٍ تقاتلَ فيها أكثر من مائتي ألف مقاتل على أقل تقدير، وذلك بسب تكوينه الطبيعي، حيث أنه منطقة كثيرة الجبال والأخاديد والأوهاد، التي لا تصلح أصلاً لسير الخيول، كما أنها لا تصلح البتة لأن تكون طريقاً تسلكه القوافل، بسبب تلك الأخاديد الكثيرة، مما اضطر الحكومات المتعاقبة، على اتخاذ طريق تحت الجبل محاذياً لـ"الصراة" المنخفضة، وما يزال هذا الطريق خطراً سلوكه، من جراء انهدام قممه على الدوام وسد الطريق، فضلاً عن الأخطار التي يتعرض لها السابلة، والقوافل أثناء الاجتياز والمرور.

والأهم من ذلك، أن هذا الموقع لم يُذكر في أي مصدر تاريخي أو جغرافي، بل بالعكس تماماً، فإن الموضع الذي ذكره المؤرخون، يبعد عن هذا الموقع لجهة الغرب بعشرات الكيلو مترات، وبالنتيجة، نستطيع القول، أن ما ظنه هؤلاء وأكدوه، لم يكن سوى وهماً بعيداً عن التحقيق والتمحيص».

خريطة قديمة للمنطقة

ولدى سؤاله عن المكان الحقيقي لقرية "صفين" وسهلها، أجاب "الحمادة": «لتحديد موقع هذه القرية بدقة، أو افتراض هذا الموقع، لا بد من العودة لأقوال المؤرخين والجغرافيين، كي نجد الضوء والدليل الذي يقودنا للحقيقة أو ما يقاربها. لقد تطرقت العديد من المراجع العربية إلى تحديد موقع "صفين"، فقد حددها "الاصطخري" بقوله: في غربي "الفرات"، بين "الرقة" و"بالس" أرض "صفين". وقال "ابن حوقل"، بصدد حديثه عن بادية "خساف": وبرية "خساف" بين "الرقة" و"بالس" عن يسار الذاهب إلى "الشام"، و"صفين" أرض هذه البادية، بقرب "الفرات" ما بين "الرقة" و"بالس".

ويقول في مكان آخر من حديثه عن "صفين": أرضٌ على "الفرات" مطلة من شرفٍ عالي السمك. ويقول "ياقوت الحموي" عن "صفين": وهو موضع بقرب "الرقة"، على شاطئ "الفرات"، من الجانب الغربي بين "الرقة" و"بالس". وقال "ياقوت الحموي" في "جعبر": بين "بالس" و"الرقة" قرب "صفين"، وذكر "صفين" صاحب الأخبار الطوال، بقوله: وهي قرية خراب من بناء الروم، منها إلى "الفرات" غلوة ـ أي مقدار رمية سهم ـ وعلى شط "الفرات" مما يليها غيضة ملتفة، فيها نزوز، طولها نحو من فرسخين، وليس في ذينيك الفرسخين طريق إلى "الفرات"، إلا طريق واحد مفروش بالحجارة، وسائر ذلك خلاف و"غَرَبٌ" ملتف لا يُسلك، وجميع الغيضة نزوز ووحل، إلا ذلك الطريق الذي يأخذ من القرية إلى "الفرات".

قلعة جعبر

أما "ابن خلكان" فيقترب كثيراً من تحديد المكان، فيقول في "صفين": وهي أرض بالقرب من قلعة "جعبر"، إلا أنها في بر "الشام"، وقلعة "جعبر" في بر الجزيرة الفراتية، بينهما مقدار فرسخ أو أقل، وفيها مشهد في موضع الوقعة المشهورة التي كانت بين "علي بن أبي طالب" و"معاوية بن أبي سفيان" رضي الله عنهما، وبهذه الأرض قبور جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، حضروا هذه الوقعة، وقُتلوا بها، منهم "عمار بن ياسر" رضي الله عنه.

وقد أشار "ابن حوقل" بدقة إلى تحديد موقعها حين قال: وهي على ربوة عظيمة، ومن فوقها ربوة أعلى منها، فيها بيت مال "علي بن أبي طالب" للفيء، قائماً بنفسه. وأورد "الطبري" نصاً حول هذا الموضوع، من خلال حديثه عن الخليفة العباسي "المعتضد بالله"، والمراحل التي قطعها بينما كان عائداً من منطقة الثغور، إذ أن الخليفة بعد وصوله إلى "حلب"، وإقامته بها يومين، رحل منها إلى "الناعورة"، ثم إلى "خساف" و"بالس" و"صفين"، ثم إلى "دوسر"، ثم إلى "بطن دامان" ثم إلى "الرقة".

وثمة نص آخر يتعلق بتحديد موقع "صفين" أورده "ابن تَغري بَردي"، ذلك أنه بعد وفاة السلطان "صلاح الدين الأيوبي"، وتولي أبنائه المُلك من بعده، جرت وحشة بين ولديه "الملك العزيز" صاحب مصر، و"الملك الأفضل" صاحب "دمشق"، وكان عمهما "الملك العادل" "أبو بكر ابن أيوب"، يقيم في قلعة "جعبر"، فسار "الأفضل" إلى عمه يستنجد به، فخرج "العادل" لتلقيه على "صفين"، فسار معه بعساكر الشرق إلى "دمشق"، وذلك سنة /590/هـ».

ويتابع "الحمادة" وفي ذات السياق: «ومما يشير إلى موضع "صفين"، ويساعد كذلك على تحديده، النصوص المتعلقة بمدينة "بالس"، فقد كانت "بالس والقرى المنسوبة إليها في حدها الأعلى والأوسط والأسفل أعذاءٌ عشرية، فلما كان "مسلمة بن عبد الملك"، توجه غازياً إلى الروم، من نحو الثغور الجزرية، عسكر بـ"بالس"، فأتاه أهلها، وأهل "بويلس" و"قاصرين" و"عابدين" و"صفين"، وهي قرى منسوبة إليها، فسألوه جميعاً أن يحفر لهم نهراً من "الفرات"، يسقي أرضهم، على أن يجعلوا له الثلث من غلاتهم، بعد عُشر السلطان، الذي كان يأخذه، فحفر النهر الذي كان معروف بنهر "مسلمة" ووفوا له بالشرط.

ويصف لنا "الطبري" موضع "صفين" من خلال الحديث عن المعركة، فيقول: وجرى أول صدام بين طلائع القوتين في سور الروم. ويقول بعد ذلك: إن فيه شريعة في "الفرات"، لاستقاء الماء منها بسهولة، ولا يوجد على "الفرات" غيرها، وإن أهل "الشام" بـ"صفين" نزلوا منزلاً بساطاً واسعاً أخذوا الشريعة.

وذكر "كامل الغزي" في كتابه "نهر الذهب في تاريخ حلب"، عند كلامه عن قضاء "الرقة"، التابع لولاية "حلب": وفي هذا القضاء أيضاً "صفين"، وكانت من أعمال "جند قنسرين"، وكانت قرية كبيرة عامرة، على مكان مرتفع من "الفرات"، و"الفرات" في سفحه، وفيها مشهد لأمير المؤمنين، سيدنا "علي" رضي الله عنه، وقيل أنه موضع "فسطاطة"، وموقع الوقعة غربية في الأرض السهلة، وقتلى "علي" في أرض قبلي المشهد وشرقيه، وقتلى "معاوية" غربي المشهد، وجثثهم في تلال من التراب والحجارة، وكانوا لكثرة القتلى يحفرون حفائر ويطرحونهم فيها، ويهيلون عليهم التراب، ويرفعونه على وجه الأرض، فصارت لطول الزمن كالتلال.

من خلال استعراضنا للنصوص السابقة، يمكن الخروج بالنتائج التالية عن "صفين": 1- مدينة قديمة معروفة قبل الفتح الإسلامي 2- تقع في الجهة الغربية من نهر "الفرات" "الشامية" 3- مقابل قلعة "جعبر" من جهة "الشامية، وبينهما مسافة قليلة 4- تقع في منطقة عالية مطلة على "الفرات"، يصعب منها استقاء الماء 5- بينها وبين "الفرات" مسافة قليلة جداً، وهي مقدار رمية سهم، أي أنها قريبة ومشرفة على النهر 6- تقع غرب سور الروم، وشرق "بالس" "مسكنة" حالياً 7- بالقرب منها شريعة ماء من "الفرات" 8- أرضها كثيرة الحجارة 9- فيها وبأعلى الربوة، مشهد قد يكون لـ"علي بن أبي طالب" رضي الله عنه، وكرم الله وجهه، أو لموضع "فسطاطة"، أو موضع بيت ماله 10- بالقرب منها تلال صغيرة، فيها قبور قتلى "صفين" 11- بترتيب الأماكن من الغرب للشرق، تكون بالترتيب التالي: "بالس" "صفين" "جعبر" "دامان" "الرقة" 12- فيها قبور كثير من الصحابة، من أشهرهم "عمار بن ياسر" رضي الله عنه.

واستناداً إلى ما ذكرت من النتائج أقول: على الضفة اليمنى لنهر "الفرات"، إلى الجنوب الشرقي من "بالس" "مسكنة" حالياً، بينها وبين "الرقة"، كانت تقع قرية غُمِرت بمياه بحيرة "الأسد"، أُطلِق عليها في هذا العصر اسم "أبي هريرة"، وعلى بعد بضعة كيلو مترات إلى الشرق منها، يوجد موقع أثري مرتفع يدعى تل "بنات أبي هريرة".

إن اسم "أبي هريرة"، لا وجود له في القديم، ولم تذكره الموارد التاريخية القديمة أو الحديثة، وكل ما يذكره القدماء في هذا المكان هو "صفين"، الموقع الوحيد بين "الرقة" و"بالس"، إذاً من أين جاء اسم "أبي هريرة"؟! إن العالم الفرنسي "دوسو" يقول: إن الكلمة مشتقة من "Alalis" الاسم الجغرافي الذي يورده الجغرافي "بطليموس" ولعل الشكل الأصلي للكلمة هو "Hararis" وجعلها العرب "أبي هريرة".

أننا لا نستبعد تخمين "دوسو" نظراً لأن الموقع كان معروفاً قبل الإسلام، حيث عُثر في المنطقة على مدافن ومغاور جنائزية من العهد البيزنطي، كما أن لا صلة لاسم "أبي هريرة" مطلقاً بالشخصية المشهورة، الصحابي راوية الحديث "أبي هريرة"، فليس غريباً أن تتحول كلمة "Alalis" إلى "Hararis" ثم "هريرة". ثم أضاف الناس إليها بعد ذلك كلمة "أب" اعتقاداً منهم أن المكان سمي على اسم الصحابي "أبي هريرة".

ولكن هذا الاستنتاج يرد أن هذه التسمية العربية لم تظهر سوى في عصرنا, ولو كان استنتاج "دوسو" دقيقاً لعرف الاسم في المراجع القديمة, وذكر الاسم في "سالنامة" ولاية "حلب" العثمانية عام /1904/م, عند الكلام عن قضاء "الرقة", فذكر من جملة قرى قضاء "الرقة"، "كرين أبو هريرة" وذكرها "الغزي" في كتابه "نهر الذهب" فقال: وفي قضاء "الرقة" مرقد "أبي هريرة" رضي الله عنه, وغيره من الصحابة الكرام, وبما أن "أبا هريرة" توفي في "المدينة"، ودفن فيها، فيمكننا القول: إن الاسم جديد وهو من مشاهد التبرُّك.

فكثير من المشاهد في العالم الإسلامي, مرتبطة بشخصيات إسلامية, حتى أن "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه, يوجد له في العالم الإسلامي أكثر من مئتي مشهد, وهو أكثر شخصية إسلامية لها مشاهد في العالم الإسلامي, و"أويس القرني" رضي الله عنه له أكثر من عشرة مشاهد في العالم الإسلامي, علماً أنه قد قتل ودفن في "صفين".

وللأمانة التاريخية، فأول من قال إن "صفين" القديمة هي "أبي هريرة" أو "جبل بنات أبو هريرة"، هو: "عبد القادر الريحاوي", في مقالته المنشورة في الحوليات العربية السورية عام/1969/م، ويحتوي تل "بنات أبي هريرة" اليوم على أطلال وخرائب، من بينها قبور ومدافن محفورة في الصخر من العهد البيزنطي, ومئذنة إسلامية من الآجر اسطوانية الشكل قطرها /3،5/ وارتفاعها /15/م, تقوم فوق قاعدة مربعة, وتنتهي في الأعلى بأربعة نوافذ مستطيلة، يعلوها أقواس نصف دائرية, وإلى جانبها آثار جامع "مدروس" يرجَّح أنها من بناء "نور الدين الزنكي" في القرن السادس الهجري, لمشاكلتها مآذن "الرقة" و"حرَّان" و"جعبر"، التي ينسب معظمها إلى هذا الملك المصلح, وهي فوق ربوة غمر مكانها بمياه السد.

إلى جوار هذا الجامع فوق ربوة أخرى أعلى مما سبق, يوجد مدفنان هما من العهد العربي الإسلامي, لم يأتِ عليهما غمر البحيرة, ربما بنيا لبعض شهداء معركة صفين أمثال: "عمار بن ياسر", أو أنها موضع مشهد "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه, أو موضع "فسطاطة" أو بيت ماله, ومن خلال العودة لقول "الطبري" السابق, يمكن القول: إن أهل "الشام" عسكروا غربي هذا الموقع, لأن الطرف الصخري لفراش النهر هنا يبتعد عن النهر أكثر من أي مكان آخر, مخلفاً بينه وبين النهر سهلاً واسعاً متصلاً بمياه "الفرات", في حين أن أهل العراق كانوا إلى الشرق من موقع "بنات أبي هريرة", بحيث يكون انحدار الجبل عمودياً, مما يصعب الاستفادة من النهر, أما سهل "صفين" فيمكن الافتراض أنه يمتد من "سورا" الروم، أو "الحمام" شرقاً, إلى "الدبسي" غرباً إلى شمال "الرصافة" جنوباً».