على ضفة نهر "الفرات" اليمنى وعلى طريق "الرقة"ـ "دير الزور" وبمسافة تقدر بنحو /20/ كم عن مركز مدينة "الرقة" تقع قرية "الدلحة" التي تعتبر من أجمل قرى "الرقة".

موقع eRaqqa وبتاريخ 26/8/2011 زار قرية "الدلحة" وأطلع على الكثير من جوانبها الاجتماعية والطبيعية. وقفتنا الأولى كانت مع السيد "بري الحجو" وهو أحد أبناء القرية، ويعمل في مجال التعليم، حيث حدثنا بدايةً عن سبب التسمية وعن الأهالي وتجمعاتهم السكنية وأصولهم العشائرية وعلاقاتهم الاجتماعية قائلاً: «تمتاز قرية "الدلحة" بطبيعتها الخلابة وبكثرة أدغالها التي تسور القرية من كافة الجوانب، ما أضفى جمالية خاصة على تلك اللوحة التي صنعتها الطبيعة بعناية إلهية فائقة هو وجود بحيرة طبيعية (الصراة) تحاذي القرية من الجهة الجنوبية والغربية، إضافة لإطلاله شاهقة العلو لنهايات هضبة البشري تطل على القرية، وتعتبر الأعلى في وادي "الفرات".

أنا أم لأغلب بنات وشباب القرية؛ فقد أرضعتهم على صدري

الواقع الجغرافي الذي تمتاز به القرية كان السبب وراء تلك التسمية فشاطئ نهر "الفرات" الذي يحاذي القرية من الجهة الشمالية لا يوجد بينه وبين الأراضي أي حاجز كما بقية القرى في المنطقة والذي يسمى (الجرف) ما يؤدي إلى (تدلح) مياه النهر في أراضي المنطقة أي إنها تميل وتتباطأ في سيرها، وهذا ما يفسر تغلغل المياه التي تصل إلى التجمعات السكنية للقرية في أحيانٍ كثيرة وما أكثر ما تعرضت القرية للفيضانات، خصوصاً في فصل الربيع الذي يترافق مع موسم فيضان "الفرات"، وكان آخرها فيضان عام /2004/».

من نباتات القرية

ويتابع "الحجو" في السياق ذاته: «تتبع القرية إدارياً لبلدية "العكيرشي"، ويبلغ تعداد سكان القرية حوالي /2500/ نسمة، يقطنون ثلاثة تجمعات سكنية متناثرة في أنحاء القرية أغلبيتهم من عشيرة "الجماسة" من "البوظاهر"، إحدى عشائر قبيلة "البوشعبان" الواسعة الانتشار في سورية، والتي تمتد بجذورها البعيدة إلى القبائل الزبيدية التي تقطن على ضفتي نهر "الفرات"، وباعتبار أن أهالي القرية يعيشون ضمن النطاق الجغرافي لعشيرة "السبخة" الممتدة على الضفة اليمنى لنهر "الفرات" فهم يرتبطون وإياهم بالكثير من علاقات المصاهرة والتزاوج، إضافة للعلاقات التي تجمعهم مع العديد من عشائر "الرقة" وتربطهم علاقات طيبة أساسها الود والاحترام المتبادل، ولعبت الزيجات المتبادلة دوراً مهماً في إرساء هذه العلاقات وتمتينها».

وعن الحراك التعليمي في القرية وتعداد الطلاب والمدارس، وعن دور المرأة ومشاركتها في الحياة الاجتماعية يقول "الحجو": «يمتاز أهالي القرية بحبهم للعلم فالكثير من أبنائها يحملون شهادات جامعية ذات تخصصات علمية وأدبية عدة، وبالنسبة لطلاب وطالبات الجامعات والمعاهد الذين لم ينهوا دراستهم بعد فيصعب حصر أعدادهم، وذلك بسبب الإقبال الكبير على التعليم العالي والحصول على الدرجات العلمية».

طريق الرقة دير الزور في موقع المضيق

ويضيف "الحجو" قائلاً: «للمرأة دورٌ كبيرٌ في تفاعلها مع الرجل في كافة ميادين الحياة اليومية في قرية "الدلحة" فهي ربة منزل إضافة لعملها جنباً إلى جنب معه في العمل الزراعي والكثير من بنات القرية حصلن على شهادات جامعية ويعمل البعض منهن بالمجال الوظيفي والتعليم والتمريض. في القرية ثلاث مدارس حلقة أولى وواحدة حلقة ثانية، ويصل تعداد الطلاب إلى /500/ طالب وطالبة وقد بنيت أول مدرسة في القرية في عام /1963/».

وقفتنا التالية كانت مع رئيس الجمعية الفلاحية في القرية السيد "رمضان بري شاهين"، الذي حدثنا عن مساحة الأراضي الزراعية التي تتبع القرية، وعن المزروعات التي يقوم بزراعتها الأهالي وعن نوع التربة، يقول عن ذلك: «مساحة الأرض الزراعية للقرية /3700/ دونم، والمساحة العامة للقرية عموماً /4200/ دونم. تأسست الجمعية الفلاحية فيها عام /1975/، ويزرع أهالي القرية محاصيل صيفية وشتوية كالقمح والذرة الصفراء والقطن والشوندر السكري والخضراوات.

السيدة عائشة الجابر

وفي الآونة الأخيرة بدأت تنتشر زراعة الزيتون في القرية، والتي أخذت حيزاً من الأراضي الزراعية، وهناك بعض أشجار الحمضيات والمشمش، ومن اللافت للانتباه نجاح بعض التجارب الفردية لزراعة الموز لما يتمتع به جو القرية من رطوبه وذلك بسبب وجود بحيرة "الصراة" فيها.

وتقسم أراضي القرية الزراعية إلى قسمين، القسم الأول وهو بمحاذاة نهر "الفرات" ويسمى أرض "الحويجة"، ويعاني هذا القسم من ارتفاع نسبة الملوحة فيه وذلك بسبب ترهل مياه النهر في هذه المنطقة ما يؤدي إلى تضرر بعض المحاصيل أحياناً خصوصاً الشتوية منها، القسم الثاني وهو القسم الجنوبي ويسمى أرض "العلو" (وجاءت التسمية من العلو والارتفاع)، فهو أكثر خصوبة من القسم الأول ومردوده أحسن كماً ونوعاً، وتمتاز أراضي قرية "الدلحة" عموماً بكثافة النباتات الفراتية الطبيعية كالسوس والزل والغرب والطرفاء».

وعن مشاريع الري الحديثة ودخول الآلة الزراعية الحديثة وعن الخدمات المتوافرة في القرية، يتابع "شاهين" قائلاً: «يعتبر عام /1982/ نقلة نوعية في تاريخ القرية، وهو العام الذي أحدثت فيه مشاريع الري الحديثة، إذ توسعت رقعة الأراضي الزراعية، ولمسنا تحسناً كبيراً في مردود الأراضي، وقبل ذلك كانت الطرق البدائية هي السائدة في عملية الري كطريقة الدولاب والنصبة، وقد لعب وجود الجرار الزراعي دوراً كبيراً في تحسين أوضاع أهل القرية إذ إنه سهل عملية الفلاحة والحراثة ونقل المحاصيل إلى أماكن التسويق والبيع.

أول مصباح كهربائي عُلّق في القرية عام /1982/، والقرية مخدمة بشبكة مياه الشرب الحديثة منذ عام /1975/، وهناك أربعة مساجد تتوزع في أحياء القرية الثلاث، وقد بني أول مسجد عام /1983/، ويمر طريق عام "الرقة"- "دير الزور" بفرعيه من الجهتين الشمالية والجنوبية وقد شق الطريق الجنوبي في بداية الأربعينيات من القرن المنصرم بمحاذاة المضيق الذي يفصل ما بين الهضبة الجبلية ومياه بحيرة "الصراة"، وقبله كان الطريق المستخدم في البادية ويسمى الطريق الأبيض لأنه مرصوف بحجارة بيضاء حيث تم الاستفادة من مكونات البيئة المحلية في تعبيده».

وعن بحيرة "الصراة" الطبيعية يقول"شاهين": «أكثر ما يميز قرية "الدلحة" وجود بحيرة "الصراة" الطبيعية، وهي منفصلة عن نهر "الفرات، وتبلغ مساحتها بضعة دونمات ومياهها غير صالحة للشرب، وتعيش فيها بعض أنواع الأسماك الفراتية كالبوري والشبوط والجري، وتأسست لها جمعية أسماك خاصة بها للمحافظة عليها والاهتمام بها، وتعتبر من ضمن المشاريع الممولة من قبل برنامج هيئة الأمم المتحدة».

محطتنا الأخيرة كانت مع السيدة "عائشة الجابر"، والتي تقول عن تاريخ ولادتها أنه قبل فلتة "الرقة" أو فلتة /4/ تموز بأربعة أعوام أو أكثر قليلاً، ويوافق ذلك تاريخ معروف في "الرقة" وهو /4/ تموز عام /1941/ تزخر ذاكرتها التي لم تخنها يوماً بالكثير من ذكريات الزمن الجميل، زمن البركة والخير على حد قولها وهي لا تعترف بالأرقام والأعداد ولا تأخذ بكلام المؤرخين ومدوناتهم بل تثق ثقة عمياء بالنهر على الرغم من جبروته وتسلطه في يوم ما، ولكنه يبقى الفيصل في تحديد زمن أي حادثة مرت فكل تواريخ العالم وانتصارات القادة حدثت إما بعد سنة "الفيضة" أو قبل سنة "جمدة الفرات".

استقبلتنا السيدة "الجابر" ووجهها اللطيف تعلوه ابتسامة، تلك الابتسامة التي كشفت أخاديد السنين في محياها المشبع بالعفوية والبراءة. بادرتنا بالقول: «أنا أم لأغلب بنات وشباب القرية؛ فقد أرضعتهم على صدري».

وتصف لنا بيوتات القرية في بدايات استقرارها قائلة: «لم تكن القرية بهذا الاتساع بل كانت عبارة عن بيوتات مصنوعة من أعواد الزل والطرفاء والغرب الفراتي، تلك العويدات لم تمنع عنا يوماً حراً ولا قراً، ولم تكن تلك المساكن البسيطة التي تتداعى بالسقوط أمام هبة ريح بسيطة هي التي تجعلنا متمسكين بهذه الأرض رغم ظروف الحياة الصعبة آنذاك، بل علاقات الود والرحمة والتعامل الصادق وحدها هي التي جمعتنا وآلفت بيننا».

وعن الزراعات المنتشرة آنذاك، والحيوانات التي كانت تقطن في أرجاء المنطقة تقول "الجابر": «كانت مزروعاتنا بسيطة كالذرة البيضاء و"القثاء" و"السمسم"، "والعوين" (اللوبياء)، و"القمح" يزرع بمساحات قليلة، لم تكن المساحات المزروعة واسعة إلى هذه الدرجة كما في وقتنا الحالي، بل كنا نقوم بزراعة أرض الطمي الذي يخلفه فيضان "الفرات" بعد فصل الربيع، وكنا نستخدم الرحى اليدوية في طحن "الذرة البيضاء" لصناعة الخبز».

وتضيف قائلة: «كانت أدغال "السوس" و"الزل" و"الطرفاء" و"الغرب" و"الكبر" تنتشر بكثافة في القرية، حيث تجد العديد من الحيوانات مأوىً لها فيها مثل "الضباع" و"الذئاب" و"الخنزير الفراتي"، ومن الطيور كان "الدراج" و"القطا"، ولكن في وقتنا الحالي لم تعد موجودة بسبب انزياح تلك النباتات، وتوسع رقعة المساحات المزروعة».

وعن حيوان "الجاموس" الذي تشتهر عشيرة "الجماسة" بتربيته عموماً وأهالي قرية "الدلحة" خصوصاً، تقول"الجابر": «كان أهالي القرية يعتمدون في معيشتهم إضافة لاعتمادهم على مزروعاتهم البسيطة على تربية حيوان "الجاموس" وما ينتجه من حليب وسمن وجبن، وتعتبر المهنة الأساسية للكثير من أهالي القرية قديماً، وهو السبب وراء تسمية العشيرة "الجماسة"، ولكن في وقتنا الحالي لم تعد الجواميس بكثرة».

وتضيف "الجابر" في السياق ذاته: «تحلب الجاموسة في اليوم ثلاث مرات الأولى في الفجر والثانية ظهراً والثالثة مع غروب الشمس، وتقدر كمية الحليب في كل حلبة بحوالي /10/كغ، وحليب الجاموسة أبيض ناصع البياض ومذاقه حلو والقشطة التي تستخرج منه اسمها (الكيمر)».