دلت المكتشفات الأثرية على أن الإنسان سكن في البدء قرب الأنهار ومنابع المياه، المصدر الأهم لاستمرار وجوده، وكلما ارتفعت مداركه، وأصبح بمقدوره التأقلم مع الطبيعة أكثر، تطلع نحو أماكن أخرى.

وبالنسبة إلى أقاليم بلاد الشام الجنوبية، وخاصة في "حوران"، اختار الإنسان ضفاف الوديان لبناء القرى والضياع، وتغلب على مشكلة المياه ببناء السدود والمطوخ، وأحسن مثال على ذلك نأخذه من خربة "جاوا" في الأردن إلى الجنوب الشرقي من قرية "امتان" و"العانات"، فقد تزود سكانها بالمياه بواسطة بركة، كما تزود سكان خربة "الهبارية" بالمياه أيضاً بوساطة بركة اختاروا لإقامتها بقعة منخفضة نسبياً قرب الوادي شمالي البيوت، وجروا المياه من الوادي وسدوا حاجتهم من المياه.

أن البركة تحولت مع الزمن إلى مكان ملوث بالماء الآسن ومكب للقمامة التي ترمى فيها، وهي مجاورة لأهم معلم أثري في البلدة، وبعد مراسلات مع دائرة الآثار والمحافظة كان اقتراحنا بتحويلها إلى حديقة عامة مع المحافظة على جدرانها الجميلة، وهكذا كان

أما سكان "الأنباشي"، جارة "الهبارية" الشمالية، والتي تقع هي و"الهبارية" على محور واحد مع "جاوا"، فقد خطوا خطوة تعد أرقى وأوسع في مجال الاستيفادة من ماء المطر، الذي يجري في الوديان، وأقاموا سداً وحاجزاً على مجرى الوادي في بقعة ضعيفة الانحدار، وجمعوا الماء الذي كان يسد حاجتهم مع دوابهم طوال أيام السنة.

بركة بلدة عتيل

والشيء الذي يدعو للدهشة أن تلك المعالم الأثرية الغنية كانت على مدى قرون المصدر الوحيد لمياه الشرب والاستعمالات المنزلية، ومع التطور الزمني هجر الناس البرك تاركينها عرضة للإهمال. وما تزال مشكلة بركة "الحج" التاريخية التي كانت المصدر الرئيسي لحجاج بيت الله الحرام على مدى قرون من الزمن، عصية عن الحل وسط مدينة "السويداء".

وأكد الأستاذ "غاوي عامر" الذي يقطن في قرية "الهيت" لموقع eSuweda عن واقع البركة في قريته: «أن بركة قرية "الهيت" كانت المصدر الوحيد لمياه الشرب لعدد كبير من قرى المنطقة، غير أن إغلاق قناة الهيت وردمها، قطع المياه عنها على الرغم من الحاجة الماسة لهذه المياه في عملية سقي الأشجار، وهي الآن تستخدم كمكان لوضع الماشية فيه، ولو قامت مديرية الموارد المائية بفتح القناة وتنظيفها لعادت البركة إلى العمل من جديد».

بركة صما الهنيدات

ونفس الوضع انطبق على بركة ناحية "المشنف" حيث قامت البلدية بردمها بعد موافقة دائرة الآثار وتحويلها إلى حديقة، يقول رئيس بلدية "المشنف" الأستاذ "هندي غانم" عن السبب وراء ردم البركة: «أن البركة تحولت مع الزمن إلى مكان ملوث بالماء الآسن ومكب للقمامة التي ترمى فيها، وهي مجاورة لأهم معلم أثري في البلدة، وبعد مراسلات مع دائرة الآثار والمحافظة كان اقتراحنا بتحويلها إلى حديقة عامة مع المحافظة على جدرانها الجميلة، وهكذا كان».

وفي تقدير الدكتور "علي أبو عساف" مدير الآثار والمتاحف الأسبق: «أن هذه البرك قد نمت عند نهاية الألف الرابع ق.م، وتستحق هذه الحالة أن نصفها بأنها إبداع إنساني قصد منه الإنسان التكيف مع الطبيعة على نحو ليس فيه غالب ولا مغلوب، واحتضنت هذا الإبداع الأجيال اللاحقة وخاصة في العصر الآرامي القيداري في الألف الأول ق .م، ثم خلال العصر النبطي قبل وبعد الميلاد بعشرات السنين.

مكن أم الزيتون

لقد تبع "الآراميون" وكذلك قبائل "قيدار" و"الأنباط" سكان "جاوا" و"الهبارية" و"الأنباشي" فأنشؤوا المطوخ والبرك، بأسلوب جديد يختلف عن الأساليب القديمة، وفي هذا المجال استغلوا مقالع الحجارة التي استخرجوا منها حجارة الجدران والقناطر وسواكف الأبواب والنوافذ وربدان الأسقف في بيوتهم ومبانيهم العامة وحظائرهم. وأحسب أنهم أدركوا مضار المقالع إذا تركت فارغة فتصبح جوره تتجمع فيها المياه والأقذار، كما نراه الآن في المدن والبلدان والقرى عندما يتساهل الناس ويتركوا الأماكن المعدة للغبار والحفر الناجمة عن إنشاءات دون معالجة لفترة من الوقت.

وتجنباً لهذه الحالة غير الصحية جعلوا من المقلع شكلاً هندسياً مريحاً للنظر، يراعى في إنشائه الناحية الجمالية النسبية، ويستفيدون منه في جمع الماء في بركة لا تشكل خطراً على الأولاد والمارة.

وتصل إليها المياه عبر سواقي تصل بين مجرى الماء الطبيعي والبركة، واهتموا على الدوام بنظافة السواقي والبرك، وأشرعت في جوانبها الشريعة كفتحات منتظمة يعبر منها الناس أو الدواب للوصول إلى الماء بسهولة ووفق مفهوم ومصطلحات العصر حاولوا مراعاة الأحوال الصحية من خلال نظافة المياه، والوصول إلى هذا الهدف، بذلوا جهداً متواصلاً في أن تبقى مجاري المياه والبرك والمطوخ نظيفة، اتبعوا أسلوب تركيد المياه في بركة ثم زلها إلى بركة أخرى».

وعن أهم البرك والمطوخ الموجودة في "السويداء" يقول المهندس "وسيم الشعراني" مدير دائرة الآثار والمتاحف في "السويداء": «هناك الكثير من البرك والمطوخ الأثرية في المحافظة، ولعل أبرزها في قرية "أم الزيتون" حيث توجد بركتان غاية في الإتقان والإبداع إحداهما تسمى المكن، ولعل في هذا صفة للمياه حيث تتجلى قدرة الإنسان في إنشاء هذه البركة المكينة الجميلة لجمع المياه، ويسيل الماء إلى بركة المجاورة بعد أن تركد وتزال منها الشوائب، وأصبحت مقبولة للشرب.

وقد خاض سكان جبل حوران القدماء تجربة المطوخ والبرك بنجاح باهر وبرعوا في بنائها فكانت البركة "السورية" في مدينة "السويداء" أجمل وأروع مثال على ذلك.

وبعد الفتح العربي الإسلامي وتزايد عدد الناس الذين يرغبون في تأدية فريضة الحج، ازدادت حاجتهم للمياه فبنيت البرك على طريق الحج كما في "ريمة حازم" و"السويداء".

ويؤكد الدكتور "أبو عساف" أنه خلال الدور الأيوبي ثم المملوكي زاد الاهتمام بتوفير المياه للقرى المتاخمة للبادية، مثل "العانات" و"امتان" و"صلخد" التي تقع على الطريق من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد الشام وباديتها، فأقاموا بركاً مماثلة لما فعله الأنباط قبلهم حينما شيدوا "السورية" التي تعتبر صرحاً حضارياً ندر مثيله في المنطقة، وإنجازا هندسيا يتصف بالمتانة والقوة وقد صمد عبر القرون في وجه الأحوال الطبيعية وخاصة الزلازل، وظلت إلى وقت قريب المصدر الوحيد لمياه الشرب في "السويداء"».

ويتابع "أبو عساف": «تعتمد البرك والمطوخ على مياه الأمطار، وفي السبعينيات من القرن الماضي آثار عدد كبير من الناس مسألة ردم هذه المطوخ والبرك وبدأت بالفعل عملية الردم كما حصل مع البركة "السورية" فضاعت معالمها، وعندما عارضت مديرية الآثار على ردم البرك واقتنعت السلطات التنفيذية بأهميتها الثقافية والحضارية وحاجة الناس إليها، أوقفت هذه العملية.

غير أن هذا العمل بقي دون الحدود المطلوبة، وقد تشكلت في هذه البرك الطحالب النتنة في العديد من البرك التي تتجمع المياه فيها ولا يستفاد منها بأي شكل رغم حاجة الناس لها، فقديماً دأب هؤلاء على نقل الماء بالجرار والمناشل إلى المنازل، وبهذا الفعل تتحرك المياه ولا تركد طويلاً، فلا تنشأ الطحالب».

مدير الموارد المائية الجيولوجي "يحيى نوفل" أوضح لموقعنا الإجراءات التي تقوم بها مديريته من أجل حماية الأقنية الذاهبة إلى البرك بالقول: «مع بداية كل موسم مطري تقوم المديرية بتعزيل الأقنية والطلب من المواطنين عدم الاقتراب منها، وقد عممنا ذلك على كل القرى والبلدات من أجل عدم رمي الحجارة على الأقنية والوديان، ونحن مع المحافظة على البرك والمطوخ لأنها تشكل أحد مصادر المياه السطحية التي تخدم الفلاحين والمزارعين في حال قام هؤلاء بالعمل مع الجهات المعنية بتنظيم السقاية».

أما د."أبو عساف" فاقترح أن تبادر البلديات إلى العمل على تسهيل وصول الماء إلى البرك والمطوخ، وقال: «تعمد هذه البلديات إلى تركيب مضخات مناسبة لتمكين الفلاحين من نقل هذه المياه بوساطة صهاريج لري الأشجار المثمرة والمزروعات، خاصة مع الحاجة القصوى للسقي والتكلفة العالية التي يتحملها المزارع من نقل المياه من آبار مديرية الزراعة إلى بستانه، وفي تقديري أن الكلفة ستصبح أقل فيما لو طبقت هذه العملية بتقانة جيدة وإدارة مناسبة، عندها نكون قد حققنا الهدف من صيانة وإعادة تأهيل مناهل المياه والاستفادة من جمع مياه الأمطار».