حالما تقترب من صرح شهداء قرية "دوما" تكتشف أنّك في مكان مشغول للحياة، ومزروع بالمحبة، على الرغم من أنّ جثامين الشهداء وذكرياتهم يستقبلونك عند المدخل، ففي أرجائه رائحة البازلت الصلب، وزهور للفرح بعد انتصار، وأماكن للذين اختاروا البقاء.

مدونةُ وطن "eSyria" زارت صرح شهداء قرية "دوما" الذي استقبل زواره يوم 25 تموز 2019، في الذكرى الأولى للأربعاء الأسود، الذي راح ضحيته 262 شهيداً مدنياً في محافظة "السويداء"، والتقت مصمم ومنفذ الصرح، النحات "يوسف حرب" الذي تحدث عن الفكرة بالقول: «كان ابني "سامر" من ضمن الذين استشهدوا دفاعاً عن الأرض والعرض، كما استشهد 21 شاباً من قريتنا الصغيرة الوادعة في ذلك اليوم الأسود. وكان رأي الأهالي أن يقام صرح خاص بالشهداء في مكان شهداء الجيش، على أن يخلد في المكان نفسه كلّ الذين استشهدوا من قريتنا أيام الثورة السورية الكبرى وما بعدها، وقد اعتمدنا بعد مشاورات وتفكير عميق أن يكون الصرح على شكل أقواس نصر، مصنوع من البازلت الطبيعي الذي يمثّل هوية المكان لدينا، ويرمز للصلابة والقوة والشموخ، وكان الاتفاق أن يكون رمزاً للحياة والانتصار، وليس للحزن، فعلى الرغم من أن جمرة الفراق لا يمكن أن تنطفئ، إلا أنّ هؤلاء أعطوا لنا الحياة، ويجب أن تبقى ضحكاتهم بيننا، فكان هذا التصميم الذي يجعل الجميع يأتون إلى هنا لكي يستعيدوا الفرح والتفاؤل والقدرة على العطاء، كان القوس الأول بطول 17 متراً وارتفاع ثمانية أمتار، وفي أعلاه تتوضع شعلة النصر، وعلى جانبيه تخليد لأسماء الشهداء على الرخام.

كان الأهالي يأتون بشكل يومي لرؤية الأعمال التي تنفذ هنا، وأصبح محجاً دائماً للجميع، وهو ما جعلنا نصنع منه حديقة من الحجر، محاطة بالورود والأشجار، ومسوّرة بالمحبة، ولذلك ظهرت إلى الناس تحفة فنية خالدة، جسدت معاني الشهادة بأبهى حلّة

أما القوس الثاني، فهو القوس المشغول على طريقة الأجداد، وهي القنطرة التي توجد في كل بيت جبلي، وهو باعتقادي تحفة فنية خالصة، حملت معها ثلاث كلمات من الأعلى، ومنحوتتين تمثل نوعاً من السلاح الذي تصدى من خلاله الأهالي لغزو "داعش" الإرهابي».

النحات يوسف حرب

ويتابع "حرب" الحديث عن الصرح بالقول: «كان الأهالي يأتون بشكل يومي لرؤية الأعمال التي تنفذ هنا، وأصبح محجاً دائماً للجميع، وهو ما جعلنا نصنع منه حديقة من الحجر، محاطة بالورود والأشجار، ومسوّرة بالمحبة، ولذلك ظهرت إلى الناس تحفة فنية خالدة، جسدت معاني الشهادة بأبهى حلّة».

المربي "موفق سياف"، استعرض الحالة المجتمعية للصرح بالقول: «بني هذا الصرح من تبرعات أهالي ومغتربي القرية، وساهمت بعض الفعاليات الصناعية والتجارية في المحافظة بما استطاعوا، واللافت أنّ الأدوات التي تم شراؤها كانت بسعر التكلفة، مع ملاحظة أنّ كل من عمل هنا لم يأخذ ليرة واحدة، وكان النحات "يوسف حرب" هو القائم بالعمل والمشرف عليه لما يقارب السنة، تاركاً أعماله وأشغاله لكي ينجز مع أهالي القرية هذا المكان الفريد من نوعه بما يضمه من رسائل، وما يحتويه من رموز، اللافت في الصرح أنه بات محجاً للأهالي، حيث جمع الناس على المحبة والتعاون، وتحوّل إلى حديقة للفرح على الرغم من الحزن الكبير الذي لفّ المحافظة كلها طوال الأشهر الماضية».

مدخل الصرح

وأجمل ساعات الزيارة للمكان هي ساعات الليل؛ حيث كانت الأنوار المشغولة بحرفية عالية تبعث على الراحة والمتعة للعين، وعنها يقول الكهربائي "وهيب حرب": «حاولت بكل ما أملك من خبرة ومعرفة أن يكون المكان مناراً بطريقة خاصة عن طريق الحساسات، ودون استعمال الأيدي، حيث يمكن للزائر ليلاً أن يتمتع بإنارة لطيفة، ويشعر بأهميته عند العبور من البوابة الرئيسية، وكذلك في حال اقترب من مكان أحد الجثامين، وضعنا هنا أحدث تقنيات الكهرباء على الرغم من غلاء المواد، لكن هذا الصرح يستحق الكثير، ويجب المحافظة عليه، وتطويره دائماً».

الزائر "أيمن حاطوم" القادم من مدينة "شهبا"، قال: «شعرت أنني أمام معلم حضاري خاص، مشغول بحرفية عالية، وفيه جلسات تشعرك بالسكون الداخلي، والتفكير المتوازن، والحكمة، هناك الكثير من الصروح التي شيدت في المحافظة، ولكن هذا المكان صنع بطريقة فنية تجعله تحفة للناظر، خاصة ذلك التناغم بين البازلت والرخام والتراب الأحمر المحاط بالورود والأشجار، فهنا تشعر بالعزّ والزهو والكرامة».

صورة لبعض الأهالي الذين شاركوا في البناء