أسّس المدرّس "عبد الرزاق حمزة" عملية تعليمية في أغلب المحافظات، ورافق التأسيس تعامل إنساني حفّز الرغبة بالتعليم، فانطلق بالعمل الأهلي الطلابي لترميم المدارس، وتابع بمشروع "الفرنك الطلابي"، الذي بقي حاضراً في أذهان من عاصروه وتتلمذوا على يديه.

المدرّس "عبد الرحمن بياسي" الطالب السابق لدى "عبد الرزاق حمزة"، في حديث لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 19 تشرين الثاني 2017 يقول: «المربي "عبد الرزاق" -مع أنه ابن بيئة دينية- كان منفتحاً جداً على الآخر وشجع على التعليم بمختلف النواحي، فقد كان علماً من أعلام مدينة "بانياس"؛ أي إنه لم يكن مجرد مدرّس عادي فقط، بل كان مربياً جليلاً علّم الآداب والمثل العليا والقيم من خلال تصرفاته مع الآخرين، وتشجيعه على ممارسة الإنسانية بأعماله.

من ضمن ما درسه جدي المفتي في "الأزهر" موضوع الميراث العائلي وتشريعاته الإسلامية، أو ما يعرف بـ"علم المواريث"، فكان مرجع القاضي الشرعي بها، وهذا لم يغب عن والدي، فتعلمها محبة وإيماناً بعدالتها، حتى أصبح مرجعاً بها بعد وفاة والده، ولخبرته ودقته ونزاهته ومرجعيته فيها؛ أطلق عليه حينئذٍ "خبير علم الموارث"

كان يعدّنا أبناءه لا طلاباً فقط، وقد ظهر هذا من خلال تعاملاته معنا، وتجلى بمحبتنا وتقديرنا له، وكان مثالاً يحتذى بالنسبة لنا، وهذا واقع أدركته ورفاقي الطلبة في الخمسينات، إضافة إلى أنه كان يجمع كل الناس، ويقصدونه لاكتساب المعرفة التي لم يبخل بها أبداً، حيث كان كتاباً مفتوحاً لنا جميعاً، بعيداً عن الزمان والمكان».

المدرّس عبد الرحمن بياسي

ويتابع: «من أبرز ما أذكره في تلك المرحلة ما كان يسميه مشروع "الفرنك" وهو العملة الرائجة في تلك المرحلة، حيث كان يجمع فرنكاً واحداً من الطلاب المقتدرين مادياً، لشراء القرطاسية اللازمة للطلاب غير الميسورين، بهدف تشجيعهم على التعلم والاستمرار في التحصيل العلمي، وهذا انعكس على جيل كامل، فكان الرعيل الأول المتعلم في المدينة، وتابع بهذا المشروع من بعده المربي الفاضل "حسن لطش"».

ويضيف: «كان مثالاً للخلق والعظمة والكبرياء، وتجلى هذا بعدم قبوله إلا أن يكون الطالب شامخاً بتحصيله العلمي، فلم يستخدم يوماً العنف، بل استخدم الكلمة الطيبة والتعامل الحسن، وقدم المعلومة المقنعة السليمة الصحيحة، وهذا ميّزه عن بقية المدرّسين في تلك المدة، وأمثاله المدرّس "قسطنطين الباني" و"حسن حرفوش" و"عبد الكريم قميرة"».

المدرّس سليمان محمد مع حفيد المدرّس عبد الرزاق حمزة

الحقوقي "حسين سليمان" من طلابه أيضاً، قال: «في البداية تعلمت عند خطيب القرية القراءة والحساب وجزء عمّ وسورة "ياسين" إلى جانب الثقافة القرآنية؛ وهو ما أفادني كثيراً ورافقني حتى ما بعد دراسة الحقوق أواخر الخمسينات، والمهم في الأمر هنا حين سجلنا في المدرسة وبعض الرفاق من القرية تم تسجيلهم في الصف الرابع لكونهم أكبر مني سناً وتسجيلي في الصف الثالث؛ وهو ما أزعجني كثيراً لتميّزي بالتعليم عنهم، وهذا لفت انتباه المدرّس "عبد الرزاق"، وطلب اختباري لمعرفة إمكانية الترفع إلى الصف الرابع، وهذا الموقف لا يغيب عن ذاكرتي أبداً».

أما "عمار سليمان"، فتحدث نقلاً عن والده المتوفى الذي كان طالباً لدى المربي "عبد الرزاق"، فقال: «ساعات طويلة كان يقطعها والدي وصولاً إلى المدرسة صيفاً وشتاءً، ويتحمل خلال طريق السفر الكثير من المشقة، وخاصة الأمطار الغزيرة، وعندما يصل إلى المدرسة مبتلاً يقوم المربي "عبد الرزاق" بتبديل ملابسه ورفاقه، ومحاولة تجفيفها ليلبسها في طريق العودة، فهو بمنزلة الأب الحنون لهم، ويشجعهم على متابعة التعليم في ظروف صعبة جداً، ويشيد بنضالهم للتعلم أمام بقية الزملاء لتحفيزهم».

المهندس جهاد حمزة

في حين أن المدرّس "سليمان حسن محمد" أكد عمق التعامل الإنساني، فقال: «عام 1968 كان "عبد الرزاق" محاسب التربية في "بانياس"، وحينئذٍ التحقت بالخدمة العسكرية لاتباع دورة تخصصية، وخلالها حصلت على إجارة لتفوقي، فغادرت وحدتي العسكرية بسرعة لفرحي برؤية أسرتي، وتوجهت إلى منزل المحاسب ببذلتي، واستقبلني من دون أن يعلم أنني مدرّس، وأخبرته بحاجتي إلى راتبي، فقال لا توجد رواتب في منتصف الشهر، ومع هذا سأعطيك ما تستحقه وفق الجدول؛ لأنك بحاجة إليه كما يبدو، حتى إنه أوصلني إلى منزلي في قرية "العليقة" التي تبعد عنه نحو خمسة وعشرين كيلومتراً على حسابه الشخصي».

وفي لقاء مع المهندس "جهاد عبد الرزاق حمزة" ابن المدرّس "عبد الرزاق"، قال: «هو مدرّس من مواليد محافظة "حماة" لكون والده كان مفتي المدينة قبل أن يصبح مفتي مدينة "بانياس" مسقط رأسه، وذلك بعد تعلمه العلوم الدينية في "الأزهر" الشريف بـ"مصر".

كان والدي "عبد الرزاق" الوحيد أو الأول الذي درس وتعلم وعلم في "قلعة المضيق"، وكان له كلمة مسموعة بين الناس، واستثمر هذه الكلمة لتحفيز العمل الشعبي والمساعدة بترميم المدرسة، وذلك عبر نقل بعض مواد البناء كالرمل والحصى المتوافرة في المغارات بكثرة إلى مكان الترميم، وهذا عزّز التعامل الإنساني والوطني في العملية التعليمية.

كما دَرَسَ في مختلف مدارس منطقة الجزيرة، مثل: "منبج"، و"السفيرة"، و"أبو جلجل"، وعاد إلى مدرسة البنين في "بانياس"، لينطلق بالعملية التعليمية كثاني أو ثالث مدرّس تشهده هذه المدينة، وهنا تميّز بأسلوبه الخاص عبر إيصال المعلومة بطريقة خاصة وذكية ترغب وتحبب الطالب بالتعلم، وأيضاً كان تعامله الإنساني مميزاً، وشجّع الأطفال على الالتحاق بالمدرسة».

ويتابع: «أنتقل إلى العمل بقسم المحاسبة المدرسية التابع لمديرية التربية، والمحدث في "مدرسة العباسية" للبنات، وتسلّم معه العمل بتوزيع الكتب المدرسية، ولم يكن يخصص وقتاً لتسليم الرواتب أو الكتب، بل كان وقته مفتوحاً في أي ساعة، وهنا كان لي سؤال له: "لماذا لا تلتزم بدوام خاص ينتهي بوقت معين؟" فأجاب: "لو لم يكن هذا المدرّس بحاجة إلى راتبه، لما أتى في منتصف الليل لتسلمه"، وهنا تميز بتعامله الإنساني كأول محاسب تربية».

تأثر المدرّس "عبد الرزاق" بوالده الشيخ "محمد عبد الرزاق حمزة" مفتي المدينة، وهنا قال المهندس "جهاد": «من ضمن ما درسه جدي المفتي في "الأزهر" موضوع الميراث العائلي وتشريعاته الإسلامية، أو ما يعرف بـ"علم المواريث"، فكان مرجع القاضي الشرعي بها، وهذا لم يغب عن والدي، فتعلمها محبة وإيماناً بعدالتها، حتى أصبح مرجعاً بها بعد وفاة والده، ولخبرته ودقته ونزاهته ومرجعيته فيها؛ أطلق عليه حينئذٍ "خبير علم الموارث"».

يشار إلى أن المربي "عبد الرزاق حمزة" من مواليد "حماة" عام 1910، وتوفي عام 2006.