في الساحل وكغيره من المناطق السورية، ظهرت على مدى العقود الماضية مجموعة من العادات الاقتصادية الهادفة لمساعدة الأسر على مواجهة الظروف المعيشية وتأمين مؤونة فصل الشتاء، ولا سيّما في العقود التي سبقت انتشار الأجهزة المنزلية الكهربائية ومنتجات البيوت البلاستيكية.

نتيجة لتفاوت الإنتاج الزراعي بين عام وآخر لأسباب متعددة، منها ما هو متعلق بفقر التربة في بعض المناطق، وشح مياه الري الناجم أحياناً عن تدني الهاطل المطري، لم يكن أمام أهالي القرى البعيدة خيار في مواجهة العوامل المناخية القاسية سوى إيجاد طرق تضمن لهم تأمين لقمة العيش ومستلزمات الحياة الضرورية، ومن هذه الطرق التي تحولت إلى عادات حسب ما يقول "محمد حسن" من ريف منطقة القدموس في حديثه لمدوّنة وطن: «تخزين الحبوب بأنواعها خلال المواسم وفيرة الإنتاج، وذلك بهدف تأمين المؤن لأكثر من سنتين في حال لم يكن إنتاج العام التالي وفيراً، فكنّا نقوم بتجفيف الحبوب بأنواعها بعد عمليات غربلتها وانتقائها، وبعد أن تصبح جاهزةً للتخزين نضعها في عنابر المؤن، والعنابر عبارة عن صناديق خشبية مصنوعة من الخشب والتوتياء، حجم كل عنبر يكون حسب القدرة المعيشية لكل عائلة، وقد يتجاوز ارتفاعه المترين بقليل، ويقسم إلى عدة حجرات تملأ من الأعلى، ثم يحكم إغلاقها، ومن الأسفل يحتوي العنبر على عدة فتحات أو بوابات صغيرة تغلق وتفتح عند الاستخدام، وقد كانت هذه العنابر تصمم بشكل يحفظ ما تحتويه بعيداً عن الرطوبة والحرارة».

بعد أن ابتعدنا عن العادات والتقاليد التي عاش عليها آباؤنا وأجدادنا، بدأنا اليوم بإعادة إحيائها، وبالفعل معظم أهالي الريف الآن يزرعون أراضيهم بمختلف أنواع الحبوب والأشجار المثمرة وفي السنوات الأخيرة عدنا لإنتاج لقمة عيشنا مما تصنعه أيدينا وتجود به خيرات الأرض، ما ساهم بالتخفيف من الصعوبات الاقتصادية الناتجة عن الحرب والحصار الاقتصادي المفروض

ويضيف: «إلى جانب خزن الحبوب كانت أمهاتنا وجداتنا تحضّرن في فصل الصيف بعض المؤن وتحفظنها لاستخدامها شتاءً، ومن أبرز الأكلات التي لم يخلُ بيت منها في قرانا الفقيرة هذه، هي مؤونة "الكشك" الذي يحضر من البرغل واللبن الرائب ويغطى بالبطم لفترة من الزمن ثم يقطّع ويجفف في الشمس وبعدها يحفظ في أكياس قماشية بعيداً عن مصادر الحرارة والرطوبة، والحقيقة أن "الكشك ما زال من الأكلات المحببة للكثيرين حتى يومنا هذا، وفي الصيف كنّ يجففنَ الفائض من أنواع الخضراوات والفاكهة الموسمية كالبندورة والتين والعنب واليقطين والباذنجان والبامياء وغيرها الكثير من الأنواع المتوافرة، جميعها تجفف تحت أشعة الشمس من ثم توضع في أكياس محكمة الإغلاق، وعملية التجفيف والحفظ بهذه الطريقة تضمن لها المحافظة على جودتها لعدة أشهر مع الاحتفاظ بقيمتها الغذائية، وإلى جانب هذا كان معظم الأهالي يهتمون بتربية المواشي والدواجن، للاستفادة من منتجاتها، ولصنع بعض أنواع المؤن من أجبان متنوعة وزبدة وجميعها كان يتم خزنها في ما يسمى خوابي الفخار، حتى يحين موسم الشتاء القاسي، أو مواسم الشح فيلجؤون إليها، كما أن اعتمادنا لم يكن فقط على ألبانها، إنما أيضاً على لحومها التي كانت تطهى بالدهن والملح، ثم تخزّن ضمن أوانٍ محكمة الإغلاق لاستخدامها لاحقاً وقت الحاجة، ومع دخول أنواع جديدة من الزراعات إلى جبالنا وقرانا البعيدة ومنها على سبيل المثال الزيتون بدأ الأهالي بزراعته لتخزين مؤنهم من ثماره المغذية واللذيذة وللاستفادة أيضاً من إنتاج الزيت وتخزين احتياجاتهم ربما لسنتين أو أكثر، والبعض يخزن جزءاً منه ويبيع الجزء الآخر، وبهذا يؤمن مردوداً مادياً لا بأس به».

عنبر حفظ المؤن

"منى محمود" ربة منزل أربعينية وأم لثلاثة أطفال، كانت في صغرها تستمع لروايات والدتها وجدتها باهتمام ومتعة، وحسب تعبيرها فإنها كانت تنجذب بعشق إلى أسلوب العيش القديم بعاداته التي تحمل الكثير من الحميمية الأسرية، لكنها لم تتوقع يوماً أنها ستحيي تلك العادات وسط ما نحياه من تطور في شتى المجالات، إلا أنّ الوضع الاقتصادي الحالي دفعها لتتذكر روايات الأم والجدة وتبدأ بتطبيقها، وعن هذا تقول: «شتاؤنا يمتاز بقسوته وبرودته الشديدة، فطبيعة الموقع فرضت هذا المناخ، ولا بدّ من طريقة للتعايش مع هذه الظروف، والآن لا بد من إيجاد سبل للعيش ليس فقط بما تفرضه الطبيعة من قسوة، إنما الوضع الاقتصادي لمعظمنا الذي بات صعباً للغاية، وأنا قررت المواجهة للحفاظ على لقمة عيش أبنائي، ومن هنا بدأت بزراعة بعض أنواع الخضراوات الصيفية لتجفيفها واستهلاكها شتاءً، أيضاً بعد إهمال الأرض لسنوات طويلة قمنا في العام الماضي بزراعتها وكان محصول القمح وفيراً، ما سمح لنا بتخزين مؤونتنا من مادة البرغل لما يزيد على العام، وبيع الفائض من البرغل والقمح ومن الزيت أيضاً، وصنعت المربيات من التين والعنب والتفاح الذي يتوافر لدينا بكثرة، كما اعتدت على جمع الأعشاب الجبلية ذات الفائدة الطبية وتجفيفها لإعداد المشروبات الساخنة كبديل عن الشاي مرتفع الثمن، وبهذا أستطيع القول إنني أصبحت أنتج قسماً كبيراً مما تستهلكه عائلتي، مع الحرص الشديد على نقل ما تعلمته من أمي وجدتي إلى أبنائي».

ومع دخول الكهرباء وأجهزة التبريد الحديثة ووسائل النقل على مدار اليوم وتوافر المواد الغذائية بشتى أنواعها كادت هذه العادات تندثر تدريجياً لدى معظم العائلات في الأرياف، لتحل ثقافة الاستهلاك بديلاً لثقافة الإنتاج والاعتماد على الذات، حتى إنّ بعض هذه الصناعات المنزلية اندثر بشكل فعلي، وأصبح الناس عرضةً لتلاعب التجار الذين يتحكمون بالمنتجات وأسعارها اللا معقولة وسط ما نعيشه اليوم من واقع اقتصادي صعب يترك آثاره السلبية على العائلات في كل مفاصل الحياة بشكل عام، فكان لا بدّ من العودة إلى ما كان عليه أجدادنا في الماضي ونقل هذه المعرفة المتوارثة إلى الأبناء والأحفاد، فهي كانت فيما مضى وسيلةً للبقاء رغم كل ما مروا به من تحديات وصعوبات.

في حديثه لمدوّنة وطن يقول "سمير خليل" وهو موظف من أهالي ريف "القدموس": «بعد أن ابتعدنا عن العادات والتقاليد التي عاش عليها آباؤنا وأجدادنا، بدأنا اليوم بإعادة إحيائها، وبالفعل معظم أهالي الريف الآن يزرعون أراضيهم بمختلف أنواع الحبوب والأشجار المثمرة وفي السنوات الأخيرة عدنا لإنتاج لقمة عيشنا مما تصنعه أيدينا وتجود به خيرات الأرض، ما ساهم بالتخفيف من الصعوبات الاقتصادية الناتجة عن الحرب والحصار الاقتصادي المفروض»، أما "رهف عبد الرحمن" وهي من سكان مدينة "بانياس" تقول: «إقامتي في المدينة لم تمنعني من العودة إلى تراث أجدادي الذي كان يوماً ما ملاذهم لمواجهة مصاعب الحياة، فبدأت هذا العام باستثمار حديقة منزلي التي تبلغ مساحتها مئة متر تقريباً، وقمت بزراعتها ببعض أنواع الخضراوات الموسمية، الأمر الذي أتى بنتائجه الإيجابية على الوضع المعيشي بالنسبة لعائلتي، أيضاً بدأنا بزراعة القمح فيما نملكه من أراض في قريتنا ومن إنتاجه نؤمن ما يلزم من مواد غذائية هامة كالبرغل والحنطة وحتى مادة الطحين».

يذكر أنّ اللقاءات أجريت بتاريخ 5 شباط 2021.