الشيخ "علي الدرويش" الحلبي هو أحد أعلام الموسيقا السوريين، ترك بصمة كبيرة على الموسيقا الحلبية والعربية والمشرقية عموماً من خلال إسهاماته الغنية في مجالات التلحين والتدوين والعزف والمشاركة النظرية في البحوث الموسيقية ومشاركته في أول مؤتمر موسيقي عربي عُقد في مدينة القاهرة في العام 1932.

للتعرّف على شخصية الشيخ "علي الدرويش" وإسهاماته في الموسيقا العربية والمشرقية التقى موقع eAleppo في مدينة "حلب" بالأستاذ "محمد قدري دلال"* الذي تحدث في البداية عن نشأته بالقول: «ولد الشيخ "علي الدرويش" في مدينة "حلب" في العام 1884 وأرجّح أنّ ذلك كان في حي "المزوّق" الواقع حول القلعة، وقد عُرف عن والده "إبراهيم" تدينه وانتسابه إلى الطريقة المولوية التي تُعنى بالإنشاد، ومن مداومة حضور طقوس الذكر في الزاوية المولوية تعلق قلبه بالموسيقا والإنشاد الدينيين.

لم يمهل المرض الشيخ "علي الدرويش" لإنهاء أعمال كثيرة مهمة حضر لتسجيلها لإذاعة "حلب" وبأصوات مطربيها ففي العام 1952 وافته المنية مخلفاً كتباً ومخطوطات تحتوي على خلاصة عمله وجهده لسنوات وهي تنتظر الطباعة والنشر

نشأ الطفل "علي" وسط عائلة صغيرة تعيش في بحبوحة لأنّ عائلها كان يعمل في تجارة الأقمشة الرائجة في تلك الفترة، وقد كان يرافقه والده معه إلى حضور حلقات الذكر في الزاوية المولوية وهو لم يكمل الرابعة بعد حيث وعى واللحن يتغلغل في أذنيه ويغشى شغاف قلبه ويداعب شرايينه فتنتشي أوردته على نغمات الموشحات والتواشيح والقدود وتتراقص على إيقاعها، ثم دفعه والده إلى الكتّاب ليحفظ القرآن ويتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب ومنها إلى المدرسة الأشرفية الابتدائية والمدرسة العثمانية ولم يمنعه الدوام في مدرسة دينية أن يتعلم العزف على آلة الناي ودراسة الموسيقا التي تعلم أصولها على أيدي كبار الأساتذة».

الباحث الموسيقي محمد قدري دلال

وعن أسماء الأساتذة الذين تعلم الشيخ "علي" منهم أصول الموسيقا قال: «لقد تعلم ذلك على أيدي عدد من الموسيقيين الكبار مثل: المرحوم "عبده زرزور" عازف الناي في التكية المولوية والمرحوم "عثمان بك" العالم المتصوف والفقيه الجليل، والموسيقي الأرمني "مهران السلانيكي" الذي درّسه القراءة والتدوين الموسيقي وبعض النظريات الموسيقية الأوروبية كعلم الهارموني وسواها، و"شرف الدين بك" عازف الناي الكبير الذي طوّر أسلوبه في العزف ليصبح أمهر عازفي آلة الناي في "حلب"، والشيخ "أحمد عقيل" حيث أخذ عنه تراث "حلب" واستفاد منه في علوم المقام والإيقاع وخاصة فيما يتعلق برقص السماح، والشيخ "صالح الجذبة" الذي حفظ عنه الموشحات والتواشيح وأناشيد الذكر وعلوم الإيقاع والمقام، والمنشد "أحمد الشيخ شريف" الذي تلقى عنه الموشحات التي تؤدى في حلقات الذكر».

وأضاف: «بعد أن صلب عوده موسيقياً وحفظ ما حفظ من تراث "حلب" الغنائي والإنشادي رأى أن يبدأ بتدوين ما حفظته ذاكرته فانكب مدوّناً ومستعيناً في ذلك بحفّاظه من سالفي الذكر يقارن بين النصوص اللحنية ويأخذ بما يعتقد أنه الأصح علمياً وبالتالي ساهم في الحفاظ على ذلك التراث العريق من الاندثار والضياع، ولم يقتصر عمله هذا على ما كان سورياً وحلبياً بل انسحب على ألحان الدول العربية والإسلامية التي زارها ولذلك يعد أول شخصية موسيقية خرجت من "حلب" وحازت على لقب العالم المحقق والموسيقي المتثبت والمدقق وبكل جدارة.

بعد ذلك التفت الشيخ "علي الدرويش" إلى ما تركه "أبو خليل القباني" من ألحان في مسرحياته فدوّنها وعرض لمقاماتها ولإيقاعاتها شرحاً وتوضيحاً فكانت درة في مكتبته وإرثاً بالغ الأهمية للمنشدين والمطربين والعلماء الباحثين من بعده، وأعتقد أنّ موشحات "القباني" لولا اهتمام الشيخ بها لأصابها النسيان».

وحول تأثيره في الموسيقا العربية والإسلامية تحدث بالقول: «يظهر تأثير الشيخ "علي" في الموسيقا العربية والإسلامية من خلال رحلاته التي قام بحثاً عن العلم والمعرفة والاحتكاك بالثقافات الأخرى وكذلك في حضوره لأول مؤتمر موسيقي عربي، إنّ الشيخ "علي الدرويش" يختلف كلياً عن أقرانه من المرتحلين سواء في ارتحاله أو في الأهداف التي من أجلها غادر موطنه "حلب" ومن أول هذه الأسباب الدعوات التي تلقاها من مختلف الجهات الفنية والعلمية والرسمية والشخصية، أما أهدافه فقد اختلفت بحسب المكان الذي ذهب إليه.

حينما سمع به الأمير "خزعل" أمير إقليم عربستان /المحمّرة/ أرسل إليه طالباً تشكيل فرقة غنائية تحل في دياره وقصره وعندما وصلته الدعوة اتصل بمن يثق بعلمه وعذوبة صوته فتألفت الفرقة من الشيخ "علي الدرويش" والحاج "عمر البطش" و"محمد طيفور" وسواهم، وهناك نشأت بينه وبين الأمير علاقة وطيدة بعد أن لحن قصائد كان ينظمها، وخلال السنتين 1912 -1914 زار الشيخ "علي" كل من بغداد وطهران وبومباي في الهند اطلع خلالها على الموسيقا الفارسية والهندية كما كانت تجري بينه وبين مختلف الفرق الوافدة إلى قصر الأمير "خزعل" مساجلات موسيقية وقد ترك ذلك الاحتكاك أثراً بالغاً في ثقافته الموسيقية حيث استفاد منها وأفاد.

في العام 1914 تجاوز سن الثلاثين ومع ذلك تقدم إلى مسابقة لانتقاء مدرّسين لمادة الموسيقا لدى وزارة المعارف العثمانية فنجح وتعين مدرساً في مدارس عدة تابعة لولاية قسطموني في شمال تركية، وفي تلك الفترة انتسب إلى معهد دار الألحان الذي كان يعد أكاديمية عليا للموسيقا حينها فتعرّف على باحثين عمالقة وأثّر ذلك على سعة علمه ومعارفه، وبعد تسع سنوات في قسطموني وفي العام 1923 عاد إلى "حلب" حيث قام بدعوة أصدقائه من ذوي الإمكانيات الموسيقية لتأسيس فرقة قامت بحفلات كثيرة في "حلب" وخارجها.

وبناء على دعوة من رئيس نادي الموسيقى الشرقي بالقاهرة السيد "مصطفى بيك رضا" سافر إلى مصر في العام 1928، وفي العام 1932 شارك في مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي عقد في القاهرة وبفعالية وذلك في لجنة المقامات والإيقاعات والتأليف وقد قدم بحثاً حول الإيقاعات المستعملة في سورية وبخاصة في "حلب"».

وتابع متحدثاً حول مسيرة الشيخ "علي" ورحلاته الموسيقية: «بعد المؤتمر سافر إلى تونس فتعرّف على الموسيقيين التونسيين كما تعاقد معه المسؤولين في وزارة المعارف للتدريس في المعهد الرشيدي للموسيقا التراثية حيث درّس فيه الناي والنظريات الموسيقية وقواعد الموسيقا بالإضافة إلى تدريب الفرق الغنائية والموسيقية وتلقين الطلاب الموشحات وأساليب الغناء المشرقي /الحلبي/ وخلال وجوده في تونس قام بالبحث والتدوين والتجول لجمع التراث والغناء الشعبي، وبعد تسع سنوات قضاها هناك غادر تونس مخلّفاً أساتذة كبار يجيدون فنه وفنون المشرق العربي المتمثلة بتقاليد "حلب" الغنائية وتاركاً تأثيراً كبيراً في الموسيقا التونسية، والزائر للمعهد الوطني للموسيقا في العاصمة التونسية سوف يرى صورة الشيخ بحجمها الكبير جداً تتصدر صالتها عرفاناً بفضله على موسيقاهم، ويُذكر أنّ الملك التونسي حينها قلّده وسام الافتخار من الدرجة الثالثة، وفي "حلب" سجل الشيخ نوبة تونسية بأصوات مطربي إذاعة "حلب" وتلك واحدة من 14 نوبة دوّنها الشيخ.

وفي العام 1944 رحل الشيخ "علي الدرويش" مع عدد من مرافقيه إلى القدس لتسجيل بعض الألحان التراثية ومن أهم الشخصيات الموسيقية الفلسطينية التي لازمته واستقت من بحر فنه وعلومه الأستاذ الملحن "يحيى اللبابيدي" والملحن "يحيى السعودي" والمطرب الملحن "روحي الخماش" و"فهد النجار" و"توفيق جوهرية" والمطربتان "ماري عكاوي" و"رجاء" والعازف "باسيل سروة" و"يعقوب زيادة" و"يوسف بتروني" وغيرهم.

وفي العام 1945 تلقى الشيخ دعوة من "الشريف محي الدين" ليكون من ضمن مدرّسي معهد الفنون الجميلة ببغداد حيث قضى فيها ست سنوات ملأ ساعاتها ودقائقها عطاء وإرشاداً.

وفي أواخر العام 1951 عاد الشيخ علي إلى "حلب" فاستقبلته الأوساط الموسيقية وفتحت أحضانها لعلمه الجليل وفنه الكبير وبالأخص المعهد الموسيقي الشرقي والإذاعة الحلبية الوليدة فكان مدرّساً في المعهد ومستشاراً لمدير الإذاعة حينها وهو الدكتور "فؤاد رجائي" ورئيس لجنة الاستماع في القسم الموسيقي فيها فوهب لطلابه في المعهد العلم والمعرفة والخبرة وسجل في الإذاعة بعضاً من أعماله الآلية والغنائية وموشحين سجلهما الأستاذ "صباح فخري" وهما /يا ساكنا بفؤادي/ من مقام "سيكاه" و/آه من نار جفاهم/ من مقام "نو أثر"».

وحول الأوسمة التي تقلدها الشيخ "علي" عرفاناً بفضله على الموسيقا قال: «من أهم الأوسمة التي نالها الشيخ سواء في حياته أو بعد مماته هي: وسام "الافتخار من الدرجة الثالثة" من الملك التونسي في العام 1931 ووسام "الأورنينا الذهبية" في مهرجان الأغنية السورية الرابع في "حلب" العام 1997 وقد سمي المهرجان باسمه، و"شهادة تقدير" من المجمع العربي للموسيقا التابع لجامعة الدول العربية، كما قام لتلفزيون العربي السوري بتقديم برنامج خاص عن حياته وأعماله كتبه أخرجه الأستاذ "جميل ولاية" في العام 1962 كما تم إطلاق اسمه على أحد شوارع "حلب" من قبل مجلس المدينة».

وعن مؤلفاته التي خلفها الشيخ قال: «من أبرز مؤلفات الشيخ "علي" هو /كتاب النظريات الحقيقية في القراءة الموسيقية/ بدأه في العام 1925 وفرغ من تأليفه في العام 1943 وما زال حبيس الأدراج، وله بحث في السلم الموسيقي العربي قارن بينه وبين السلم الفيثاغورثي والسلم الغربي المعدّل القائم على مبدأ أنصاف الصوت».

وختم: «لم يمهل المرض الشيخ "علي الدرويش" لإنهاء أعمال كثيرة مهمة حضر لتسجيلها لإذاعة "حلب" وبأصوات مطربيها ففي العام 1952 وافته المنية مخلفاً كتباً ومخطوطات تحتوي على خلاصة عمله وجهده لسنوات وهي تنتظر الطباعة والنشر».

  • "محمد قدري دلال": باحث موسيقي يُعنى بالتراث الديني في سورية والحلبي خصوصاً وهو عضو نقابة الفنانين بصفة عازف وملحن عازف عود منفرد عزف على أكبر مسارح العالم ورئيس فرقة "أورنينا" وهو من مواليد مدينة "حلب" في العام 1946.