«"التكفيت" هو عملية جمع وضمّ جزءٍ من معدن على شكل أسلاك غالية الثمن مثل الذهب والفضة داخل حفرٍ عميقٍ وعريضٍ مسننٍ على سطح معدنٍ آخر، وتثبيته بالطرائق التتابعية من دون استخدام اللحام، وإنما بتسليط الحرارة، لتنتج أعمالاً فنيةً مميزةً، وأصل كلمة "تكفيت" عربي إذ جاء في القرآن الكريم (وجعلنا الأرض كفاتاً* أحياء وأمواتاً)، والكفت في اللغة العربية هو الجراب الذي يوضع ويضم الشيء فيه بغية حفظه».

هكذا عرّف "محمد السيد" فن "التكفيت" الذي ورثه عن والده الراحل "جاد السيد"، عندما كان طفلاً يجلس بجانبه يساعده، ويتفحص القطع المعدنية مدققاً في تفاصيل الأعمال، ويحدّق في الوجوه القادمة والمغادرة من أفواج وقوافل السياح، في ورشتهم بمنطقة "الحميدية" المليئة بالتحف الفنية المحفورة.

وما "محمد السيد" شيخ الكار الشاب اليافع الذي يحلق اليوم في مفردات هذا الفن إلا نموذجاً فريداً عن واقع الحرف السورية الدمشقية الشامية، وهو ووالده الراحل يمثلان دعامة مدرسة التكفيت وبهما تألقت وستبقى هذه المدرسة خالدة بترفها الفني وعمقها التاريخي

ويقول "السيد" لمدوّنة وطن "eSyria" إن عائلته تعمل بهذه الحرفة منذ عام 1990، وإن والده الذي رحل عن الدنيا باكراً، ترك له هذا الإرث، فقرر السير على خطاه، وبدأ بالبحث في بواطن المخطوطات والمراجع والمصادر وفي نفائس المكتبات عن صور القطع الفنية المكفتة بالذهب والفضة، والتي تعود لمدارس إسلامية متعددة، ليعيد تكوين هذه الإبداعات من جديد بطريقة محدثة تحاكي العصر وتحمل بصماته وفكره، فهو لا ينظر إلى الخامات المعدنية تلك النظرة المجردة الشمولية، بل يدقق في التفاصيل والجزئيات، ويدرس بدقة عالم الزخارف ومدلولاتها، وكذلك الخطوط وتشكيلاتها، ويحلل الرموز الموشحة في تفاصيل القطع النادرة، بغية تجسيدها في أعماله.

صدر نحاسي من الفن الدمشقي والسلجوقي

ويضيف "السيد": «أقحمني والدي في العمل بهذه الحرفة بالطريقة الميدانية العملية وأنا في سن السابعة، وكنت أتابع باستمرار براعته في رسم الزخارف والرنوك، وأحياناً الأشكال الهندسية المعقدة، وأقوم بتقليدها بدقة وبشيء من المتعة واللذة، وكنت دائم السؤال عن تفاصيل الأشياء، كما كان يحرص والدي باستمرار على تعليمي أسرار هذه الحرفة، ولطالما كان يردد لي عبارة أحببتها وأخذتها منهجاً لعملي، وهي (حرفة في اليد أمان من الفقر)، وقد أيقنت عندما أصبحت يافعاً أن لهذه المقولة معانيَ كثيرةً لا يعرفها إلا أرباب العمل، ورسمت طريقة جديدة لعملي وتعاملي مع المفردات والخامات والأشخاص بطريقة قوامها الصدق في القول والفعل والعمل، وقررت أن أتبع منهجاً وسلوكاً فنياً، وذلك من خلال إدخال بعض الرسوم الصعبة في تشكيلات الزخارف المستخدمة، وكذلك استخدام الخطوط العربية ذات التشكيلات الهندسية الفريدة مثل خط الثلث والخط المملوكي الريحاني والخط السنبلي والديواني الجلي، وكذلك الخط الكوفي المظفر والمورق، كما حاولت من خلال تجربتي الجديدة أن أقتبس من المدارس المختلفة بعض التشكيلات والزخارف وتوحيدها في أعمال جديدة فريدة، ونجحت في ذلك، وحالياً لدي الكثير من القطع الفنية المكفتة والتي تصلح لأن تكون في المتاحف العالمية لجودتها وحسن إتقانها، واستطعت خلال فترة وجيزة أن أنجز بعض الأعمال بأشكال مختلفة، حرصت أن تحمل معها بصمة روح والدي، كوني الوحيد الذي يعمل بهذه الحرفة وتفاصيلها من رسم وحفر وبيكار هندسي وفتح السن، وتكفيت وتجميع الفضة، والتشعير والتريّش والتزميك والتجويف، كما أنني الوحيد الذي يعمل في الحفر على الفولاذ كالحفر على الأسلحة والسيوف».

شارك "السيد" في الكثير من المعارض، كان أهمها معرض "دمشق الدولي"، ومعرض أقيم في "خان أسعد باشا" ضمن فعاليات "أيام التراث السوري"، وأيضاً بمعرض "سيريا موزاييك" عام 2016، وتم تكريمه في هذا المعرض من قبل وزارة السياحة بجائزة "أصغر حرفي سوري"، وشارك بمعرض جامعة "دمشق"، وحصل على شهادة مشاركة، كما نال شهادة "شيخ كار" بحرفة تكفيت وحفر المعادن، ويحمل شهادة حرفية من اتحاد الحرفيين وعضو هيئة عامة وعضو في مجلس شيوخ الكار.

إبريق ريش دمشقي من أعماله

ويرى "السيد" أن أهم أعماله هي قطعة تعتبر أول قطعة بعد القطعة الأصلية، والقطعة الأصلية تم إنجازها في القرن الثالث عشر في "العراق" في "الموصل"، وسيتم عرضها في متحف "اللوفر" قريباً، جمع فيها حرفة الحفر على الخشب وتنزيل الصدف مع حرفة التكفيت، كما أنجز قطعة مهمة هي (صدر) من النحاس جمع فيه الفن الدمشقي والفن السلجوقي، وكتب فيها عبارة (الجوهر في الناس لا في الحجر والنور في القلب لا في البصر) بالخط الكوفي الريحاني وهي مأخوذة من الفن الدمشقي، أما الفن السلجوقي فظهر فيها برسومات للوحوش والفرسان كان السلاجقة يستخدموها في فنهم ويرمز كل منها لرمز معين، إضافة إلى الكثير من القطع كالصحون المكفتة بالفضة والسكريات والكثير من الأواني المنزلية.

وعن خصوصية المدرسة الدمشقية في حرفة التكفيت ومفرداتها أوضح: «المدرسة الشامية بمفهومها الأوسع والأشمل والتي لا تقتصر على "دمشق" فقط، هي مدرسة عريقة بامتياز لها قصب السبق في ترسيخ أصول الحرف التقليدية العريقة والعميقة، ولا شك بأن هذه المدرسة ورثت القيم الجمالية من المدارس الأخرى الأكثر عمقاً وتشربت معارفها من جذور الحضارات السالفة، وهذه المدرسة امتشقت صرح المجد وتمكنت من بلوغ أهدافها بدقة متناهية ولهذا بقيت الحرف التقليدية الشامية محافظة على ألقها وتفردها مقارنة مع المدارس الأخرى على الرغم من الأحداث التاريخية القاسية التي مرت بها الحرف الشامية من تهجير وطمس وقهر من قبل الاستعمار بأشكاله المتعددة، وقد أثبت الحرفي الشامي بأنه الأقدر على صيانة حرفته وتطويرها بغية مواكبة الحداثة ولبوس العصر دون التخلي عن الأصالة والجودة والإتقان».

بعض الأعمال

رئيس اتحاد الحرفيين "ناجي الحضوة" أكد أنّ المدرسة الدمشقية هي المدرسة الأعرق في حقل الحرف التقليدية، وهي تحديداً المدرسة الشامية، لأن جذورها تمتد عميقاً في تاريخ الفن والتفرد، وحرفة التكفيت تلك الحرفة الرائدة القديمة المستدامة لم تكن بعيدة عن الصدارة، بل هي جوهر الصدارة وأيقونة الحرف كلها، إذ نجد في مفرداتها الزخرفة البديعة، والخطوط العربية الأصيلة، والرسوم الجميلة الموحية، بالإضافة إلى المعادن الثمينة مثل الذهب والفضة، كل هذه المفردات عجينة من الترف الفني، حلّقت بيد الفنان الدمشقي المبدع، وجعلت منه المخضرم في حقل الحرف التقليدية، لأنه ورث ومنذ الأزل المعارف من منابعها الأساسية، ويتابع: «وما "محمد السيد" شيخ الكار الشاب اليافع الذي يحلق اليوم في مفردات هذا الفن إلا نموذجاً فريداً عن واقع الحرف السورية الدمشقية الشامية، وهو ووالده الراحل يمثلان دعامة مدرسة التكفيت وبهما تألقت وستبقى هذه المدرسة خالدة بترفها الفني وعمقها التاريخي».

الجدير بالذكر أنّ الحرفي "محمد السيد" من مواليد "دمشق" عام 1997.

تم اللقاء بتاريخ 29 تشرين الأول 2020.