لعلّ أجدر ما نبدأ به في الحديث عن "وليد قارصلي" هو ما قاله يوماً المخرج الكبير "نبيل المالح": "عندما أتطلع إلى وليد قارصلي أكتشف كم نحن مقعدون وكم هو قادر على أن يتجاوزنا".

هكذا ورغم أنه قضى القسم الأكبر من حياته صريع المرض الذي أقعده في فراشه أغلب سنوات عمره ولم يغادره إلا إلى حتفه حيث بدأ قعوده الدائم في عام 1972 ولكنه استطاع أن يجسّد "دمشق" القديمة وبيوتها العتيقة عبر لوحاته التشكيلية بأسلوب خاص مختلف تماماً عن فناني عصره، كما وصف "الشام" في قصائده وكأنه كان يدور شوارعها كل يوم، يصفه الأديب "حسن م يوسف" بالأستاذ في فن الحياة، ويتابع حديثه عن هذه الشخصية لمدوّنة وطن "esyria" : «شيء مدهش أن تجد كل هذه الأزهار وكل هذا الجمال الطبيعي في لوحات فنان لا يغادر منزله إلا مرة أو مرتين في العام، فنان متعدد المواهب يرسم بالموسيقا ويرقص بالألوان وهو إنسان مملوء بالحياة أكثر من كل الذين يملؤن الشوارع والدروب بالصخب والحركة، كثيرون منكم يعرفون الفنان التشكيلي "وليد قارصلي" من خلال معارضه الفردية التي يغلب عليها طابع الشفافية العميقة وبراءة الأزمنة الخالية، لكنني أود هنا أن أحدثكم عن مصيره كإنسان، لأنّ حياته تحمل رسالة أبلغ من فنه، بل ومن فنون الدنيا جميعاً».

رغم حصاره بشروط الطبيعة ليكون السرير مرسمه ومكتبه طيلة عمره الإبداعي، إلا أنه عبر الإرادة وحسه العالي بالجمال أنتج أعمالاً أسعد وأفرح الآخرين بها، حاول أن يرسم اللوحة من جميع الجهات مختلفاً عن غيره من الفنانين، المهم لديه هو حفظ اللغة اللونية والتعبيرية، وفي اللوحات التي احتاجت رؤية عن بعد ليرى نواقصها، كان يستعين بزوجته أو أحد أصدقائه في هذا الشأن

أضاف: «مارس "وليد قارصلي" الرسم منذ طفولته الأولى تحت إشراف والدته الفنانة "إقبال ناجي" كما أظهر تميزاً في الموسيقا فأنشأ عام 1960 فرقة للموسيقا الغربية في "دمشق" تدعى "بلو ستارز" لكنه لم يختر دراسة الرسم ولا الموسيقا، بل قرر دراسة الإلكترون، وفي عام 1966 تخرج من أكاديمية "لينينغراد" السوفيتية بدبلوم ماجستير في العلوم الإلكترونية، بعدها اختار أن يتابع دراسته العليا في مجال الفيزياء النووية، في السنة الأولى لتحضير الدكتوراه عام 1972، ذهب يسبح مع مجموعة من الأصدقاء في نهر "موسكو" فقفز عن الضفة الى النهر فارتطم بالقاع، ما أدى لإصابته بالشلل التام، وأثناء معالجته، طلبت منه الجامعة أن يغير موضوع دراسته العليا، وأن يختار موضوعاً نظرياً لرسالة الدكتوراه بسب مرضه، فاختار أن يكون موضوع رسالته "تاريخ الفن المعاصر في سورية 1912-1975"، بعد سنة ونصف السنة من المعالجة، استعاد "وليد" الحركة ليده اليمنى بنسبة جيدة، وقرر العودة الى البلد.

قارصلي في مرحلة الشباب

وأثناء دراسة الإلكترون، لم يقطع وليد علاقته بالفن، إذ أسس خلال دراسته في جامعة "لينينغراد" فرقة موسيقية دولية استمرت منذ 1963 وحتى 1969 وقدمت أعمالاً فولكلورية عربية وأوروبية وأمريكية لاتينية، كما أقام خلال دراسته عدة معارض للغرافيك».

لم يختر "قارصلي" الفن طوعاً، ربما الفن هو من اختاره، ولكنه أبدع بخياله الواسع وحبه لمدينته "دمشق" فرسمها برقي وهو يمضي ليله ونهاره مستلقياً، على جانبه، في السرير سانداً رأسه بيده اليسرى وهو يرسم اللوحات الفنية ويؤلف الموسيقا وأفلام الرسوم المتحركة على الكمبيوتر، لم يعرف المستحيل ولا الملل وهو بين الجدران الأربعة، وأكد ذلك مراراً بنفسه خلال حواراته حين قال "لا تكفيني أربع وعشرون ساعة في اليوم، أحتاج إلى المزيد من الوقت لأنهي ما يدور في رأسي".

من لوحاته

يقول "عبد عيسى" وهو باحث في الشأن الثقافي: «رغم حصاره بشروط الطبيعة ليكون السرير مرسمه ومكتبه طيلة عمره الإبداعي، إلا أنه عبر الإرادة وحسه العالي بالجمال أنتج أعمالاً أسعد وأفرح الآخرين بها، حاول أن يرسم اللوحة من جميع الجهات مختلفاً عن غيره من الفنانين، المهم لديه هو حفظ اللغة اللونية والتعبيرية، وفي اللوحات التي احتاجت رؤية عن بعد ليرى نواقصها، كان يستعين بزوجته أو أحد أصدقائه في هذا الشأن».

ولد "وليد قارصلي" في مدينة "تدمر" حيث كان يعمل والده عام 1944 وترعرع في جو مشبع بروح الفن وعالم الألوان من خلال والدته الفنانة التشكيلة "اقبال ناجي"، أقام العديد من المعارض في "لينينغراد"، "موسكو"، "دمشق"، "بيروت"، "عمان"، "طوكيو"، "باريس"، و"كندا"، كما شارك في المعارض السنوية لفناني "سورية" منذ عام 1986 منها مشاركته في معرض "البورتريه" و"تحية إلى دمشق القديمة" ومعرض "الكرامة"، وكانت له عروض في صالات "ايريس" والمكتبة الأمريكية والمركز الثقافي الروسي بـ"دمشق" عام 1977 وفي "معهد العالم العربي" في "باريس" عام 1995 وفي مهرجاني "توكاماتشي وياماتو ماتشي" عام 1996 في "اليابان" و"مركز الخدمات الإنسانية" بـ"الشارقة" عام 1996 ومهرجانات الكاركاتير في "تركيا وإيران وكوبا واليابان وبلغاريا".

بيوت

وعمل "وليد قارصلي" في مجال رسوم الأطفال والملصقات ورسوم وأغلفة الكتب وغرافيك الكمبيوتر وأفلام الكرتون، وألف العديد من المقطوعات الموسيقية لمسرحيات وأفلام ومسلسلات سورية، توفي في "دمشق" عام 2006 تاركاً خلفه إرثاً ثقافياً غنياً.

ومن قصائده نختار من "دمشقيات"

أنت كما عرفتكِ

دون كحل على عينيك

أنت الحب والجوع

والجوع الحب في نهديك

أنت والغار والصبا الملتاع بين يديكِ

لك يا شام

هذا فؤادي خذيه يحاكي سطح خديكِ

خذي بحراً يموج بالإعصار مخضراً يناجيكِ

لا تخفضي رأساً ما اقتحم الغزاة شبراً من أراضيكِ.