عندما يحتدم دوري كرة القدم ينقسم الجمهور إلى مشجع لهذا الفريق ومؤيد لذاك، وترى الشباب يدافعون عن النادي الذي يشجعونه دفاعاً يصل في بعض الأحيان إلى حدود جنونية وقد يتحول التشجيع إلى عنف، بعض علماء الاجتماع يسمي هذه الظاهرة القبائلية الحديثة تمييزاً لها عن القبلية التقليدية، في حالة القبليات التقليدية لا خيار لأفراد القبيلة إلا في نصرة القبلية التي يولدون منها، وتشكل الهوية القبلية التقليدية المرجع الأساسي لتصرف الأفراد، ومع تطور المجتمعات الحديثة فإن دور الهوية الجمعية التي يكتسبها المرء عند ولادته يتغير، فالمجتمعات الحديثة تتطلب تحركاً اجتماعياً واقتصادياً من أفرادها وتقييمهم على أساس قدرتهم على التطوير الذاتي وليس على أساس انتماءاتهم الأسرية أو القبلية، ورغم استمرار الهويات القبلية والأسرية التقليدية في تفعيل أعضائها اجتماعياً إلا أنها لم تعد المحرك الأساسي لتصرفاتهم.

ولكن الأفراد يحتاجون دائماً إلى حلقة اجتماعية يعملون من خلالها على تعريف أنفسهم، فيختار الأفراد طوعاً حلقات اجتماعية للانتماء إليها فمنهم من ينتمي إلى مجموعة تشجيع ناد رياضي ومنهم من ينتمي إلى جمعية أهلية أو حزب سياسي أو مجموعة تطوعية أو إلى عدد منها في آنٍ واحد، وحيث إن هذا الانتماء ليس إلزامياً فإن مبرراته غالباً ما تكون عقلية كالقناعة بأن هذه الجمعية تخدم المجتمع أكثر من مثيلاتها أو ذاك الحزب يملك أفكاراً أفضل تلبية لاحتياجات الأمة، ولكن المبررات العقلية لا تلغي حاجة الأفراد النفسية للاطمئنان إلى صحة قرارهم بالانتماء إلى هذه المجموعة أو تلك، وخاصة إذا كانت هناك حالة تنافسية بين المجموعات فالنادي يخسر أحياناً ويربح أحياناً في لعبة كرة القدم والحزب يربح أحياناً ويخسر أحياناً في الانتخابات، ولكننا نادراً ما نرى الأفراد يغيرون من انتمائهم إذا خسر الطرف الذي ينتمون إليه، ذلك لأن انتماءهم نادراً ما يأتي من قناعة عقلية بقدر ما هو حاجة سيكولوجية للانتماء، مايربط المجموعات القبائلية الحديثة إذاً علاقات عقلية في الظاهر، نفسية سيكولوجية في القرار.‏

ويثبّت هذه العلاقات خطاب موحِد يتطور ويتوسع بحسب حاجة المجموعة للتأقلم مع تنافسية المجموعات الأخرى، فمشجعو النادي الرياضي الذين يتحدثون عن مجموعتهم حينما يكون ناديهم في الصدارة يتحدثون عن مهارات لاعبيهم المفضلين وكفاءاتهم الفائقة في التحكم باللعبة، أما مشجعو النادي الخاسر فالذي يجمعهم هو المبررات التي أدت إلى الخسارة: تواطؤ الحكم مع الفريق الآخر أو ظلم اللجنة المنظمة للدوري في وضع برنامج المباريات، وربما كان السبب في خسارتهم حقيقة هو فعلاً عدم العدالة في شروط المنافسة، ولكن هذا ليس المهم في الأمر بل الأهم هو تشكل هوية تجمع مشجعي النادي مبنية على أساس تحولهم إلى ضحية، ويتبلور الخطاب الجامع على أساس عقلي ظاهره رفض الظلم وباطنه ضرورة الدفاع عن هوية المجموعة من الناحية النفسية وتبرير استمراريتها. ‏

بالطبع تتبدل الأدوار ويصبح الرابح خاسراً والخاسر رابحاً، فتنصقل في ذهنية المجموعات القبائلية الحديثة هوية مبنية تارة على إحساس بالتفوق وتارة على أحاسيس الضحية، وتعظم الأنا الجمعية للمجموعة على حساب تصغير الأنا الجمعية للمجموعات الأخرى، ويقود التقليل من الخصم غالباً إلى تجريد الخصم من كل أخلاقه، فالخصم هو الذي يغش ولا يلعب اللعبة بعدالة وشفافية، وحين يشتد التنافس والخلاف بين المجموعات يتم تحويل الخصم من إنسان غير أخلاقي إلى شيء لا إنساني، وهنا نلحظ تشكل خطاب الهوية حول فكرة إلغاء الآخر، وبقدر ما تشتد المنافسة تشتد الحاجة إلى جمع الصفوف عن طريق تصعيد الخطاب الذي يكرس هوية المجموعة مقابل إلغاء المجموعات الأخرى، ويصبح الانسحاب من الصف خطراً على المجموعة ما يدفعها لتمارس شتى أنواع الضغط الأخلاقي على أفرادها بما في ذلك إشعارهم بالذنب، فانسحاب الأفراد يشكل طعنة في منظومة الهوية، وإذا قبلت المجموعة انسحاب أحد أعضائها فإنها لا تقبل بأي حال من الأحوال أن يشكك أحد بخطابها. ‏

في النزاعات بين المجموعات القبائلية الحديثة تطور كل مجموعة إذاً نوعين من التعبيرات، النوع الأول هو التعابير الإيجابية عن هوية المجموعة والنوع الثاني هو التعابير السلبية (التي تسلب إنسانية) المجموعات المنافسة، ويتولد تدريجياً (مع احتدام التنافس وتحوله إلى صراع عنيف) خطاب رافض للآخر هو خطاب الكراهية، هذا الخطاب يسقط كل السلبيات على الطرف الآخر ويحتكر كل الإيجابيات لطرفه، ينسب لنفسه التفوق الأخلاقي وينسب لمنافسه الانحلال الأخلاقي، يعمم بشموليته كل المنتمين إلى مجموعته ليصبحوا قديسين ويشمل بتعاميمه كل أفراد الطرف الخصم ليصبحوا شياطين، يستنكر العنف الذي يتلقاه ويلبسه لباس الشر ويسمح لنفسه أن يدافع عن العنف الذي يمارسه هو لأنه يدافع عن الحق، خطاب الكراهية يصبح في أعين الأفراد الذين يروجون له حقيقة مطلقة، وبقدر ما يحصر الأفراد أنفسهم في الترويج لهذا الخطاب تصبح قدرتهم على التراجع عنه ورؤية الأمور بحيادية أمراً مستحيلاً، فالانتماء إلى جهة الحق يبرر كل تقصير ويمحي كل ذنب، خطاب الكراهية هو الوجه الآخر لعقدة الذنب، عندما لا نستطيع إصلاح أخطائنا، يسامحنا خطاب الكراهية بأن يسقط أخطاءنا على الآخر المكروه. ‏

من هذا المنظور فإن أية عملية فض نزاع لا بد أن ترافقها عملية تحوير في الخطاب الناظم لهذا النزاع، ويلجأ أغلب الوسطاء والعاملين على فض النزاعات، إضافة إلى تركيزهم على فصل خطوط التماس وإيقاف العنف الفيزيائي، إلى العمل مع المجموعات المتنازعة لنقل خطابها وتهدئة العنف الخطابي، وكما أثبتت تجارب فض النزاعات مراراً وتكراراً، لا ينفع العمل على محور دون الآخر. ‏

كان لا بد لهذه المقدمة الطويلة للدخول إلى ما يجري في سورية اليوم، لأن جزءاً كبيراً من الخلاف الحاصل اليوم هو تكريس لخطابين رئيسين متناقضين رافضين لبعضهما البعض، في هذا الإطار تمركزت الهوية الأساسية لمجموعات الطرف الأول حول فكرة الضحية فهي تنسب العنف كله لمجموعات الطرف الثاني وتعطي لنفسها الفوقية الأخلاقية لأنها الضحية، وبالمقابل تكرست هوية مجموعات الطرف الثاني حول فكرة أن الوطن هو الضحية وأنها تستمد فوقيتها الأخلاقية من خلال الدفاع عن الوطن، وما أشبه الخطابين ببعضهما البعض، «الآخر» هو المتخلف والفاسد والذي يمارس العنف، بل يتلقى المال مقابل ممارسة العنف، «الآخر» هو شر مطلق، وبالطبع فإن تكرار الحديث بالمقولات الخطابية المبنية على الكراهية يعيد توليد نفسه ويصبح نوعاً من النبوءات التي تحقق ذاتها. ‏

خطاب الكراهية يرفض الحالة الوسطية، فالوسط ينظر للعنف كظاهرة مشتركة لكل من الأطراف مسؤوليته عن العنف (أو على الأقل مسؤوليته لعدم إيقاف العنف) وهذا يقض مشروعية الخطاب من أساسه، فخطاب الكراهية مبني على الشمولية وعلى وضع الخير كله في طرف والشر كله في الطرف الآخر، وأي تشكيك في ذلك هو تشكيك في هوية المجموعة، لذا فإن ألد أعداء خطاب الكراهية من الناحية السيكولوجية ليس خطاب الكراهية النقيض، فالخطاب المضاد مرفوض من الأساس بينما الحالة الوسطية هي سحب لمشروعية الخطاب من حيث إنها تشكك بشموليته، لذا فإن أطراف الخلاف اليوم في سورية يمارسون أشد الضغوط على كل من بقي في الوسط، فالعالم بالنسبة لهم منطقي فقط حينما ينقسم إلى موالاة ومعارضة ولكنه غير منطقي حينما يوجد من يشكك في العنف كعنف ومن يرفض الإقصاء وإلغاء الآخرين. ‏

بالطبع تتعقد الأمور عندما تتولد خطابات ثانوية فلا يكفي أن يكون الفرد منتمياً إلى هذه المجموعة أو تلك بل يجب أن يثبت هذا الانتماء عن طريق الانخراط المفرط والمغالاة، والمجموعات الثانوية ضمن قطبي المعارضة والموالاة يجب أن تثبت أنها أشد إيماناً بموقفها من مثيلاتها، لذا تطور هذه المجموعات الثانوية خطابات خاصة ترفض ما تراه ضعفاً من قبل المجموعات الأخرى حتى وإن كانت تعمل لمصلحة الأهداف ذاتها، وصار طبيعياً اليوم أن نجد مجموعات معارضة متخاصمة تتهم بعضها البعض بمحاباة النظام ومجموعات موالية متنافسة تتفاخر بمغالاتها في الدفاع عن موقفها، وهكذا يولد خطاب الكراهية آليات ذاتية داخلية تحض أفرادها على التطرف. ‏

الخطاب يشمل مجموعة مقولات تعبر عن قيم ومواقف معينة، ولكنها مع تكرار الحديث عنها تصبح تعابير لا تعبر إلا عن نفسها ولا هم لها سوى إعادة تكرير إنتاجها، هذه المقولات قد تكون مكتوبة أو شفوية أو حتى شكلية رمزية، فالشعارات في المسيرة أو المظاهرة هي جزء من الخطاب وكذلك اليافطات المحمولة والصور وآليات الاصطفاف وإيقاع الصفقات ويشمل أيضاً فعل الخروج في المسيرة أو المظاهرة، ولكن الجزء غير المرئي من عملية إعادة إنتاج الخطاب لذاته هو رفضه لسماع ما يعارضه، مقاطعة الأصدقاء والأهل لبعضهم البعض، هو جزء من تكريس المقولة الخطابية عن طريق إلغاء نقيضها، وما أكثر الأصدقاء والأهل والجيران الذين باتوا يرفضون حتى إلقاء التحية على كل من لا يوافقهم في الرأي. ‏

نقف اليوم على حافة مرحلة جديدة من النزاع في سورية مع دخول المراقبين العرب للإشراف على فك الارتباط ومحاولة تخفيف العنف، ولكن الخطر يكمن في أن هؤلاء المراقبين يقومون بالرقابة على العنف الفيزيائي دون أن يقوم أحد بالعمل الموازي المطلوب لتحوير خطاب الكراهية وتحييده على طرفي الخلاف، وهذا سيجعل مهمة المراقبين شبه مستحيلة، فالموضوع لا يتعلق بقرار أشخاص أو جهات محددة بل بتغيير نظرة الأطراف إلى بعضها البعض، إن إحدى أهم تقنيات فض الخلاف تتعلق بجعل مقولات الكراهية من الطرفين غير مقبولة أخلاقياً، وهذا لا يتم دفعة واحدة بل على دفعات، ويتطلب تطوير مواقف وسطية بديلة يمكن أن تسمح لجميع الأطراف بالانتقال من خطابها المتطرف إلى خطاب بديل من دون أن تخسر ماء وجهها ودون أن تكون حركتهم خسارة لهوياتهم، ولكن الأطراف المتخاصمة تجهز للمرحلة القادمة عن طريق تصعيد خطابها (بجميع أشكاله ومكوناته) لإثبات أنها الضحية التي يجب أن يتعاطف معها المراقبون، فمن الذي سيقوم بدور تحوير خطاب الكراهية وتوجيهه إلى خطابات تقبل وجود الآخر ولا تقصيه؟ ‏

هذه دعوة للجميع لكي يرفضوا الانزلاق إلى خطاب الكراهية كائناً ما كان مصدره وكيفما كان شكله، القيمة الأخلاقية البديلة يجب أن تتمركز حول نبذ الإقصاء ورفض جميع أشكاله وأدواته، ولكيلا تصبح هذه الدعوة خطاباً إقصائياً سلبياً بدورها يجب أن تكون مفتوحةً على قبول الأطراف كلها وخلق مساحة مشاركة وحوار، الموقف الجديد لا يجب أن يكون مبنياً على أساس هوية خطابية بل على أساس المشاركة الفعالة للجميع، أي إننا بحاجة لنبحث عن المساحة التي تجمعنا على الأرض، فالقيمة الأخلاقية ليست مع هذا الطرف أو ذاك بل هي كامنة في قدرة أي موقف على جمع الأطراف، بالطبع سيحارب المتشددون الذين يبنون هوياتهم على أساس الانتماء إلى خطابات الكراهية هذا الموقف المبني على الانفتاح والتنوع، فمن الأسهل بكثير ادعاء الشمولية من تحقيقها على الأرض، ولكن لا بد من إقناع كل الأطراف بأن تحوير طبيعة الخطاب لا يهدف إلى إلغاء حق الطرفين بالخلاف بل إلى نقل الخطاب إلى مكان يستطيع فيه الطرفان الاختلاف من دون عنف، وهذا بالطبع صعب للغاية عندما يكون طرفا الخلاف غير متناظرين في الإمكانيات وفي القدرة على السيطرة على اتباعهم أو حماية مشاركتهم في هذه المساحة الوسط. ‏

لحسن الحظ فإن العمل على خلق مثل هذه المساحة الوسطى يمكن أن يتحقق على مراحل أولها على المستوى الخطابي قبل أي عمل ميداني، فبدلاً من أن نقاطع بعضنا بعضاً وأن نتبادل الاتهامات ونبني هويتنا على حساب الآخرين دعونا نقاطع خطابات الكراهية، وهذا يشمل جميع مظاهرها أينما وجدناها وكيفما كانت، دعونا نبنِ موقفاً جديداً مبنياً على قبول بعضنا بعضاً كبشر وكمواطنين وقبولنا لحقنا في الاختلاف، لن ينتهي العنف بانتصار طرف على آخر، الفرصة الوحيدة لإنهاء العنف هي في خلق هذا البديل، المسيرة / المظاهرة الكبرى المطلوبة لإيقاف العنف لن تكون في الشوارع ولن تظهر على شاشة التلفاز، بل ستنطلق من قلوبنا جميعاً حاملة شعاراً بسيطاً: لا للكراهية.