بين فلسفة البنـّاء وجمال واقع البناء، ارتباط فكر البنّاء بالماضي والحاضر، ونقل معالم أوابد المدينة الأقدم في العالم، لتكون فلسفة خاصة به، محققاً على مر الزمان احتضان ديانات وأفكار ورؤى متعددة، شكلت ثقافة مميزة.

«ربط الباحث الدكتور "نبيل طعمة" فلسفة البنّاء السوري المتمثل بحاضره وماضيه مع فلسفة العمارة التاريخية القديمة والحديثة»، الحديث كان للأستاذ "نور الدين الشوفي" المهتم في مجال البحث والفلسفة لموقع eSyria بتاريخ 4/4/2012 وتابع بالقول: «اعتمد الباحث على ربط سفر التكوين الأول، وكلمته، التي أنجبت لغة عالمية سادت مساحة كبرى من محيطها، من مسمارية، وفينيقية، وكنعانية، وآرامية، وسريانية، وعربية إسلامية، بالبنّاء، الذي سطره التاريخ عبر تراكم ثقافات روحية وعلمية، وهو يؤكد أوابد منها معبد "القبضة" في دمشق، أي معبد الملك الإله "حدد" أو متحولاً إلى "جوبتير" إله الشمس، إلى كنيس كليم الله، إلى كنيسة "يوحنا المعمدان" إلى مسجد "بني أمية"، طارحة أسئلة أهمها ما معنى أن تولد المسيحية وتعاليمها في بيت لحم والقدس الشريف، وأن تكون "الشام" حاضنتها الحقيقية، وحاملتها في ذات الوقت إلى العالم أجمع؟ أو معنى ظهور الإسلام في "مكة"، وأن يتجه مباشرة إلى الشام لتكون حاضنته وحاميته، وكذلك انتشاره حتى وصل جبال "البرانس" وأسوار "الصين"، وقبل هذا وذاك، كيف بنى "إبرام، أبرهام، إبراهيم" سور "دمشق"، بعد أن حلب الشاة في "حلب"؟ مشيراً إلى سر هذه الكتلة التاريخية الفريدة بوزنها النوعي، حيث لم يغرقها الماء، ولم تتناهبها العواصف، وما سر ثقافة وإصرار البناء السوري على الإيمان الحقيقي لا الصوري، مؤكداً أن حقيقته تظهر في الدفاع عن إرثه وموروثه».

ربط الباحث الدكتور "نبيل طعمة" فلسفة البنّاء السوري المتمثل بحاضره وماضيه مع فلسفة العمارة التاريخية القديمة والحديثة

وحول علاقة البناء السوري بالتاريخ أوضح مهندس العمارة "مروان الدبيسي" بالقول: «لعل العمارة السورية التي تختص بلون الحجر وشكله وطريقة بنائه هي الدلالة الرئيسية على مدى القدم التاريخي وعلاقته بالتاريخ، ذلك لأن الحجر وهندسته شكلت عند البناء السوري حالة ثقافية خاصة، لذلك تجد معظم أبنية دمشق القديمة مبنية بطريقة هندسية ذات دلالة دمشقية حاملة القدم والزمن والثقافة، من حيث اللون والشكل والمكان، وهذا ما اسبغ على مدننا السورية حلة جميلة من هندسة معمارية عمل على تطويرها البناء السوري عبر مراحل زمنية قديمة حديثة».

الأستاذ نور الدين الشوفي

إن فلسفة البنّاء، هي فكرية حضارية، امتلكت أسرار الفكر وقدمته إلى الحياة الإنسانية، لتتكون الأسئلة الكبرى وتبدأ بكلمة "كلّمني" أو قل لي، هذا ما بدأ به الدكتور المهندس "نبيل طعمة" الباحث والمؤرخ في حديثه وتابع بالقول: «ها نحن الآن نتبادل الكلام حول مغزى فرد عنواننا، ومعه نجد أن بحثنا يغوص من أجل امتلاك مفاهيم الأسس التي أشيد عليها ذاك البناء الظاهر، والسواد الأعظم من البشرية يعلم أن الجغرافيا مساحة خالية، وحينما يحضر الإنسان، يتأملها، يعلم ما تحتاج، فيتحول إلى علم بما تحتاج، يشتغل عليه فكراً، يسقطه عليها وإذا به بناء مادي ولا مادي، يشهد له الآخر بأنه بنّاء، وكلما فهم جمالها أنجز جمالاً متميزاً، اي كلما اتسعت مداركه كان له اتساع عليها، الكثرة البشرية تعرف السباحة ولكن كم من هذا الكم البشري هو من يغوص، والغاية مشاهدة الحقيقة، وكي نغوص في عالمنا البشري، الذي نمتلك منه لغة واحدة تؤمن بأن الباني جوهر أي بناء، والجوهر فكر وروح، وبهما نتفكر أننا جوهر الأشياء الاصطناعية، كما الروح جوهر الإنسان المادي، لذلك اتجه مباشرة للبحث ضمن الحجم التاريخي لسورية الآبدة، لتكون صورتنا عبر كامل العصور، والحاملة للإرث الإنساني والموروث الثقافي، ونقطة الانطلاق والارتكاز الذاكرة الإنسانية للتاريخ، لأن الأمة التي تجهل تاريخها لا تستطيع الانتقال إلى المستقبل، وهذا ما جعل تاريخها تاريخاً للعالم المتمدن، من خلال مقومات الجغرافيا السورية الذي هو إنسانها الحكيم، العاقل، القوي، والمتأمل، وهذه الصفات منحت بالتراكم التاريخي لقب البنّاء الحقيقي للسوري».

وعن فلسفة البيت السوري وبنيانه، وشخصية البناء السوري بين الدكتور "نبيل طعمة" بالقول: «البيت السوري تراكبت لبناته المتحدة بقوة، وعناية البنّاء الموظفة توظيفاً دقيقاً، الغاية دائماً الحصول على هرم نوعي فريد مشاد على جغرافيا تستحق الحديث عن ندرتها، إذ حينما نتأمله تأمل المحب العاشق، ندخل من أبوابه المشرعة المتعددة والمتنوعة والمرحبة، حيث يرينا مشهداً نوعياً متميزاً، ينم في كل الأوقات عن ديمومته القادمة إلى المستقبل بقوة، من خلال جمعه للأزمان الثلاثة، تحت مظلة الثابت، الكلي، المحيط، المراقب لحركة سورية على أضلاع الحاضر والماضي والمستقبل، أما شخصية البناء السوري فهي إنسانية فكرية، حملت هوية ثقافية منفتحة، ولهذا نجد أن أبوابه قامت في بنائه على السبعة، مستنداً إلى النظام التكوين الإلهي، أي إيجاد سبل سهلة للدخول إليها، فكل مدينة فيها امتلكت ذات الفلسفة، أين، من أين أنت قادم، من الشمال، الجنوب، الشرق، الغرب، تدخل، تسكن، تشتري وتبيع، تتعلم وتستفيد، حيث تحدث لك الامتلاء من المادي والروحي معاً، ولهذا ابتعدت شخصيته عن التشنج، وفهمت الماضي بأنه انتماء محب، وثابت يتفاعل مع المؤثرات والمعطيات، ويتفهم المتغيرات، أي إنها شخصية رحبة تتماشى مع الاستحقاقات الحاضرة، والقادمة بفعل التطور، فكان لها دلالات منطقية، ومعان واقعية جسدت طبيعة حضورها، وهنا نفسر أن الجغرافيا والبناء معادلة كيميائية يكون نتاجها البناء، ولذلك استثمر هذه اللغة التي قدمها السوري على جغرافيته الباقية والتي جمع عليها كامل موروثه وغدا رمزاً لها».

الدكتور نبيل طعمة

وحول فهم البناء السوري لفلسفة وجوده بين الدكتور "نبيل طعمة" بالقول: «أدرك البنّاء السوري فلسفة وجوده، من مبدأ من لا يملك فكراً لا يمكن له أن يبني كلمة، والكلمة، إنسان، يختلف عن البشر القادم من "بدء شر" حيث "قابيل" قتل "هابيل"، والإنسان وجود موجود في شكله العمودي المتحرك الاستثنائي، لا يمكنه إلا أن يأنس لجنسه، حيث معه يمتلك، ويقود، ويرشد، من نظره وسمعه وكلامه الأفقي، إضافة إلى مسيره الأفقي كامل مكونات الحياة، بهذه المواصفات نجده وعي مفاهيم الحوار، وآمن به، رافضاً أفكار الصراع، حيث تتجلى عظمة الشخصية السورية التي آمنت بالطموح، والحق المشروع، بخلق نظريات التنافس الشريف، الذي أوجد انطلاقته العالمية، فكان "حيرام أبي" أول معمار من "صيدا الشامية"، أنجز بناء الهيكل، من خلال الهيكل الإنساني، ففهمه الإنسان البنّاء السوري على أنه بناء لسكن الروح المحركة لفعل العقل والقلب، وكذلك فعل المعمار السوري "أبولودر الدمشقي" الذي بنى عمود "تراجان"، وقمة "البانثيون"، وشيد الجسور الضخمة، وأهمها "جسر دبروجا" على نهر "الدانوب" فكان معجزة هندسية رائعة، وأيضا، لأن شعاع المعرفة وصفو الأمر بالعودة إلى الأرض وصاحبها السوري البناء».

الاستاذ "بيان الشوفي" الدارس للتاريخ أشار إلى خصوصية فلسفة البناء السوري ومكوني الجغرافيا والتاريخ بدراسة الدكتور "نبيل طعمة" قائلاً: «أشار الباحث الدكتور "نبيل طعمة" إلى أن البنّاء السوري آمن بأن التعددية تكوين خلاق، والتنافس الإيجابي والإيمان بنتائجه في جوهرها التي تحتكم للعقل والوجدان، بلغة تدل على تطور المجتمع، ولوحة فنية جميلة، يقرأ بها الآخرون التنوع الثقافي والقدرة على التكوين، وتحويل المفاهيم الإنسانية وترجمتها إلى واقع فكري عملي، بمواكبة العصرنة، لأن التعايش يعني أن يحافظ كل واحد على فكره ضمن الدائرة الواقعية دون الاندماج مع الآخر، بينما تطور مفهوم التعددية يظهر التشارك الحقيقي في إنتاج الإبداع المادي والعلمي واستخدامه سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً، متجاوزاً الأنا الفردية، مؤمناً بتطور المجتمع بأفضل النتائج، وذلك بإعادة الموروث الروحي والديني إلى العمق الإنساني».

الأستاذ بيان الشوفي