لعل خيبات الأمل، وتعدد النكسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في القرن الماضي، كانت عاملاً لتاسيس ثقافة جمعية خاصة لأدب أطفال اختار ميدانها، وطرقها، ووسائلها، شاعر الطفولة، والوطن، والحياة الشاعر "سليمان العيسى".

لكن ثمة سؤال يحمل الشجن في ثناياه، هل خرج الشاعر "سليمان العيسى" من بين جدران الزمن المظلم، التي عاش ظلامها مطلع نضال شعبنا ضد أعدائه، وأين أحلامه، ورؤياه الإبداعية؟ أم إن خيباته تلك ترجمها في توجهه من الكتابة للكبار والتحول إلى مخاطبة الأطفال بمشاعر الأمل والفرح والسعادة، تأسيساً لثقافة جديدة؟

"سليمان العيسى" الشاعر قبل كل شيء والمربي الأستاذ والإنسان الإنسان، أعرفه، كلما التقيت بقصيدة وطنية قومية وجدانية، أو قصيدة أطفال، لأخرج معه من وزارة التربية إلى وزارة الحياة في الشعر، عُرف "سليمان العيسى" شاعراً قومياً مناضلاً لم يتزحزح عن موقعه في ذلك، آمن بحق أمة تترامى بها الأصقاع على مساحات الدنيا، لها من مقومات الوجود تاريخ من الأحداث والآثار والأفكار.. ولها من لغتها وصل من خيوط المدارات الواسعة بين الامم، خيوط تقطعت في آلام التاريخ تحت ظلال الانحدارات، والسيطرة التي انزاحت اليوم بعد أن تركت سدود المستعمرين بيننا حدوداً، أصعب من كلام كل الحاكمين الرجعيين، فأبناؤها اليوم لا يأكلون ولا يشربون على طبق واحد، من اقتصاد واحد

حول تجربته الإبداعية الشاعر "جودي العربيد" عضو اتحاد الكتاب العرب تحدث لموقع eSyria قائلاً: «في تأمل ما كتب الشاعر ندرك مدى ما انتابه من ألم على واقع عربي غريب، وقلما عبـّر أديب عن آلام وآمال أمة بما تعرضت له من عسف وتفتيت كما عبر عنها "سليمان العيسى"، فهو منذ وقف عازفاً وألحانه تصدح على شتى المقامات تنبّه وتحذّر وتصرخ، فالمعاناة تفجر ينابيع الأدب الأصيل، ومشاعر الأديب الحقيقي كما يرى "همنغواي" في "ديستويفسكي" حين نفي إلى "سيبيريا"، ذلك أن حالات الاستلاب والنفي والتشرد صبغت أدب الشاعر، وخاصة تلك البدايات التي كان أكثرها لعنات صبها الشاعر على أعداء الأمة والإنسانية فيقول: "ما كنت إلا صيحة للثأر تشتعل اشتعالا"

الشاعر جودي العربيد

وهي كذلك ابتهالات عزفها لبزوغ صباح مشرق على أرض العروبة كافة، وكان في أكثر ما كتب ثائراً متمرداً بإباء منقطع النظير، يتطلع لمجد أصيل برؤى وإن شابها أحياناً هالات سوداوية إلا أنها كانت متفائلة بإيمان قاطع أن هذه الأمة ستعود لتأخذ مكانتها وإن أعسر الزمان وتآمر المتآمرون، وسطا المستبدون وتجبر الغاصبون:

لا ..لن أقطب حاجبي.... ولا أنا بالفجر كافر

الشاعر سليمان السلمان

بدأ مسيرته الأدبية متغيباً بأهداف الكادحين والقيم العربية الأصيلة والإنسانية، يصبو مع شعبه إلى الحياة الكريمة ممثلاً لها أينما حل في ربوع الأرض، فقد ذاق مرارة التشرد والنفي، وعاش مقهوراً بعيداً عن رؤية حلمه العربي الكبير في بلاد يراها والحدود والقيود والتبعية تأكلها، فكان "العيسى" تلك القيثارة التي عزفت على وتر منفرد لفجر وحدوي تسوده العدالة وتكافؤ الفرص، يرفرف في سمائه علم واحد، ونشيد واحد، وآمال وردية، وأنى له ذلك والمصالح الفردية تمزق هذه الأحلام، فيصرخ ويستصرخ، ويطلق العنان لمشاعر عربي حزين كان يوماً يطلق جواده عبر صحراء العرب من الخليج إلى المحيط بلا موانع، ولا قيود، فيعلن بمشاعر طفلٍ أبي:

لا تلمني، فلن أعد حياتي/ في دروب الضياع والذل شيا

وهو الذي سعى جاهداً ليرى حلمه يبصر النور، حلم أمة واحدة، فحين سطع فجر الوحدة بين سورية ومصر سنة 1958 أدرك أن جذور هذه الأمة لن تموت، ومازال نسغ العزة يجري فيها، وها هو يخضر رغم الصعاب والذئاب مردداً:

منذ يومين قد وجدت، فعمري/ يوم أعلنت مولدي اليعربيا

فكان دائماً يلتزم أهداف الفقراء، مؤمناً أن لا حياة إلا بما تسعى إليه، ولا صباح إلا بما تنظر إليه، ولذلك ينشد أهدافها بعيداً عن الأنانيات الذاتية أو القطرية، وبعد عقود من العزف على عود الوحدة ومساهرة نجومها، وليالي الأرق، لعله يبصر بريقاً لها»....

وحول ميل الشاعر "العيسى" نحو الأطفال بين الشاعر "جودي العربيد" بالقول: «بعد انفصام عرا الوحدة كاد يتسرب إلى روحه غبار اليأس ودخان الفرقة، فعانى حريق ألمها، اتجه نحو الغراس الجديدة، والزهور الوليدة حيث تنسم عطرها ورأى سماوات بلا حدود في عيونها، وأحلاماً يزينها شمم الوعد، وكبرياء الشجر الذي لا يموت إلا واقفاً، ولابد له من أن يزهر يوماً، فذهب "سليمان العيسى" إلى لون آخر من الشعر لا يقل أهمية عن غيره، سماته العذوبة والبراءة، وآفاقه الصدق وأريجه الحنين، عالم من أمل بهي، اتجه إلى أطفال الأمة، عسى أن تبدأ الحياة دورتها من جديد ليورق مستقبل آخر للأمة بإنسانية لا تعرف التعصب أو الانحياز أو الظلم. إن الشاعر "سليمان العيسى" عبر على موجات الشعر، ودروبه، وأشكاله ومسرحه لإيمانه بأن الإبداع لا يمكن أن يتقيد بشكل واحد، ولا بديل له من الحرية ليتنفس ويكبر، وبلا حرية لا إبداع ولا حياة له، لذلك خاض أنهار الأدب ووديانه، فجاءت العبارة رشيقة، والتراكيب متينة بحلل ملونة، باقة ناصعة من ربيع شعري أخاذ، وإن غلب على شعر البدايات أسلوب الكلاسيك بمباشرة، وخطابه فذلك يعود إلى آثار التاريخ والمرحلة والزخم النضالي الذي أذكى نار الشعر وحماس الشباب، تلك الحلة التي ستبقى زماناً تعيدنا لأصالة الشعر، وزهو تألق الحداثة في طموح البحث عن الجديد الذي ينتج المختلف، فهو لم يتقولب في شكل واحد في الكتابة، بل انطلق يخفق في الشعر الجماهيري، فجاءت مجموعاته: "كأزهار الضياع، وأمواج بلا شواطئ"، وديوانه الهام ديوان الأطفال، أقرب إلى المحطات الربيعية وتراتيل الأعياد الملأى بأسرار الوجود، فينظر الشاعر ليرى صراع الناس والشعوب فيأسى ويسأل: "لماذا لا يعيش الناس مثل الضوء والظل؟،

وددت لو أنني نسمة/ تغطي الكون من أفق إلى أفق».

وعن معاناته مع الزمن وأزمة أمته أوضح الشاعر "جودي العربيد" قائلاً: «فعلى التفاتته لما في الكون من ألم وطغيان لا ينسى أزمة أمته العربية، وأحداثها الجسام من جرح فلسطين إلى اسكندرون إلى قريته "النعيرية" إلى أمثالها تلك التي يعيشها، حيث شكلت له هماً دائماً، فلعلها الوحدة والديمقراطية والحرية والعدالة هي الأيقونات التي من خلالها تعود تلك الأمة إلى مجدها، لتساهم في بناء عالم جميل، عالم خال من الحدود والقيود والأذى والجوع، فلهذا الهاجس الدائم في عالمه الداخلي كتب الشاعر ديواناً كاملاً عدا ما سبق للحديث عن تجربة العسف والسجون، وذكر في إهدائه: "إلى الأطفال الذين يستيقظون في عهد الديكتاتورية فلا يجدون آباءهم"، وإذا كانت أهمية المرء تنبع من خلال تأثيره في الحياة، والثقافة، فإن الشاعر "سليمان العيسى" يبقى علامة مضيئة في سماء الثقافة والنضال في بلادنا حاملاً مشعل الرافضين لكل أشكال الذل والقهر والطغيان والتزمت، حالماً بغد أكيد تملأ شمس العروبة ربوع الوطن، لقد كتب الشاعر للشطآن التي رآها صامته، وغنى أمواجها للرياح فلم تجبه إلا أنيناً بأنين».

وبرؤية أخرى شاعرية عن إنسانيته وتعامله الإنساني بين الشاعر "سليمان السلمان" عضو اتحاد الكتاب العرب بالقول: «"سليمان العيسى" الشاعر قبل كل شيء والمربي الأستاذ والإنسان الإنسان، أعرفه، كلما التقيت بقصيدة وطنية قومية وجدانية، أو قصيدة أطفال، لأخرج معه من وزارة التربية إلى وزارة الحياة في الشعر، عُرف "سليمان العيسى" شاعراً قومياً مناضلاً لم يتزحزح عن موقعه في ذلك، آمن بحق أمة تترامى بها الأصقاع على مساحات الدنيا، لها من مقومات الوجود تاريخ من الأحداث والآثار والأفكار.. ولها من لغتها وصل من خيوط المدارات الواسعة بين الامم، خيوط تقطعت في آلام التاريخ تحت ظلال الانحدارات، والسيطرة التي انزاحت اليوم بعد أن تركت سدود المستعمرين بيننا حدوداً، أصعب من كلام كل الحاكمين الرجعيين، فأبناؤها اليوم لا يأكلون ولا يشربون على طبق واحد، من اقتصاد واحد».

وتابع الشاعر "سليمان السلمان" بوصف الشاعر "العيسى" قائلاً: «يعتبر "سليمان العيسى" شاعر الوصف الجميل أيضاً، فكم من لوحات تتلألأ على جدران القصائد، زيَّنتها تفاصيل الخيال، فملأت العين والقلب، وانطبعت في مشاهد الفن الأدبي، رائعة في دلالاتها ومرماها، تسوق إلى الأفق مناظر خلابة من وطن الخلود، وهو شاعر الطفولة الرائع الذي مد لها يديه، فضم قصائده الأطفال، كما يضم الأب فلذات أكباده إلى صدره، لقد كتب لهم وكتب الكثير الجميل، لقد سمعته على مدرج جامعة "دمشق" بعد نكسة حزيران مباشرة، يعلن أنه سيخص الأطفال بشعره، ولن يكتب للكبار، ولكن روح الشاعر لا تقيد بالرغبة أبداً، فعاد إلى فيض الإلهام، يصعد قصائده جميلة من جديد في خضم الأحداث، في أسماع الحياة لمن يسمع، فأبدع "سليمان العيسى" للوطن فكان شاعراً وطنياً كبيراً ناشد قومه بشجاعة فكان قومياً من الطراز الأول يدعو لبعث الحياة في أمة تفرقت، كما يقال، أيدي سبأ، كتب للصغار والطفولة فكان الأول المغني لفاتحة العمر، كتب للجمال فكان جميلاً، صوره بلوحات جميلة، أمده الدهر بالسنين، فامدنا بما خصه به دهره من الحكمة والشعر والعطاء، فكان المربي، وكنا أبناء ما قدم لنا وللوطن العربي، وللإنسانية».

المعلمة الابتدائية "هدية العماطوري" بينت انعكاس شعر "سليمان العيسى" على الأطفال قائلة: «أنا معلمة منذ أكثر من ثلاثة عقود ومازلت أعيش أشعاره إذ كنت من الطالبات اللواتي حفظت قصائده وعلمتها للأطفال، الأهم عندما وقفت كمعلمة لأقرأ لهم أبياتاً من شعره شعرت مدى دلالة كلمته المعبرة، إذ لم أجد تكلفاً في الأداء فقد قرأت لهم كيف حفظت أشعاره، وتذكرت قوله: "دعوا الأطفال يغنوا وغنوا معهم"، ولأن شعره ذو دلالة وقيمة فنية وموسيقا خاصة من نوع طفولي، سرعان ما ردد الأطفال قصائده وهذا ما أشعرني بأهمية إبداعه وكيف يتملك الطفل دون معاناة، لعل شاعرنا الكبير الذي يحتاج لأدبه دراسات وبحوث نقدية، هو بحاجة أكثر إلى دراسة البعد السكيولوجي في دخوله إلى بنية شخصية الطفل ومخاطبته بلغة مبسطة ذات بعد مكاني وزماني وإبداعي، فهو بحق شاعر الأرض والطفولة والوطن».