أثقلت ذاكرتها بقصص الأهل وطقوسهم، وكغيمة أمطرت؛ كتبت السيناريو، وأخرجت الأفلام، وكفارسة شجاعة امتطت صهوة الشعر، وبلهجة أهل البادية المحكية قالت الكلمة وبثّت فيها الروح والنبض، وأجادت القافية وحافظت على الوزن، فسميّت فارسة الشعر النبطي الدمشقية.

«33 عاماً من عمري، أظنّ أنها تمرّ بالتوازي مع ما كنت أصبو إليه، كل ما أقدمه مقتنعة به، الكتابة بالنسبة لي ليست مصدر رزق أو حالة تجارية، هي حالة شغف مستمرة، فلست مضطرة لتقديم أي عمل خارج حدود قناعاتي». هذا ما بدأت به الشاعرة والسينمائية "رماح جوبان" حديثها لمدونة وطن "eSyria"، التي تواصلت معها بتاريخ 10 تشرين الأول 2018، وتابعت قائلة: «أنا أمّ لطفلين، المتعارف أن الزواج يحدّ من طاقة وإبداع المرأة، عن نفسي أقول إن عائلتي تمثّل في حياتي أهمّ حافز للعطاء والاستمرارية. الكتابة إن كانت شعراً أو سيناريو، هي مساحتي الخاصة التي لا أستطيع الإحساس بلذة الحياة من دونها، وهي لا تقل قيمة عندي عن الماء أو الهواء، وما بين الفكرة والقلم تتجلى الصورة التي أهوى ترجمتها من خلال عدسة الكاميرا».

33 عاماً من عمري، أظنّ أنها تمرّ بالتوازي مع ما كنت أصبو إليه، كل ما أقدمه مقتنعة به، الكتابة بالنسبة لي ليست مصدر رزق أو حالة تجارية، هي حالة شغف مستمرة، فلست مضطرة لتقديم أي عمل خارج حدود قناعاتي

وعن نشأتها قالت: «أنا الطفلة الأصغر لأربع إخوة، نشأت في بيت دمشقي عربي من بيوت منطقة "المهاجرين" كل ما فيه كان ينطق بالشعر والجمال، فكيف لروحي أن لا تتعشق بسحر الياسمين البلدي والجوري وزهر النارنج، فتثمر شعراً وحباً. بعمر 5 سنوات كنت أمضي وقتي وأنا أشاهد أشرطة الفيديو، وشغفي بقراءة الحوارات المترجمة في الأفلام الأجنبية دفعني إلى تعلّم الحروف من إخوتي، حتى قبل دخول المدرسة. في الصفوف الابتدائية الأولى كنت لا أرضى بأقل من التميز، وكنت أترأس ندوات فكرية تقيمها المدرسة، وما زلت أحتفظ ببطاقات الدعوى وصوري فيها. البدايات كانت مع أناشيد الشاعر "سليمان العيسى"، مروراً بالأدب الأموي والعباسي الذي كنا ندرسه في المدرسة، إضافة إلى قراءتي لكل كتاب كنت أحصل عليه علمياً كان أم أدبياً أو خيالياً. بعمر 7 سنوات حفظت أول قصيدة من كتاب الصف التاسع ومن دون الاستعانة بأحد، وألقيتها في احتفالية ذكرى حرب "تشرين" على منصة المدرسة، أما أول أبيات التي كتبتها، فكانت بعمر التاسعة:

من توقيعها ديوانها "حُلم"

"يا خائني في الحب إنك قاتلي، فاقتل ولكن ردّ ذاك القلب لي"

الموهبة هبة إلهية، كل إنسان موهوب على اختلاف موهبته، منهم من يمضي سنوات عمره حتى آخرها تائهاً باحثاً عن نفسه وموهبته، المحظوظ فينا من يستطيع اكتشافها بعمر مبكر».

من تصوير فيلم "دحلان" الذي حصل على منح سينما الشباب

وتابعت حديثها فقالت: «أذكر تلك الليالي بصيفها وشتائها عندما كان والداي يجلسان تحت شجرة النارنج ضمن طقس مسائي، يسردان لي ولإخوتي قصصاً مختلفة، فهم من بيئتين مختلفتين؛ والدي من "الشام"، ووالدتي لبنانية من "بعلبك"، كنت أسمع القصة وأراها أمام عيني كشاشة عرض. فعلياً أغنيا قدرة السرد عندي، وثقافتي الأولى في الحياة استمديتها منهما؛ فبقصصهما وطقوسهما زرعا في داخلي حياة أخرى تختلف عن الحياة التي نعيشها».

عن باكورة أعمالها قالت: «أول عمل قدمته كان لوحات درامية للسلسلة الكوميدية "بقعة ضوء"، وتبعها مسلسل "زنود الست"، ثم توقفت لفترة بسيطة لألتحق بدورة دبلوم العلوم السينمائية الذي أغنى معرفتي من خلال المواد التي تلقيناها على يد أساتذة مهمين بمجال النقد والإخراج والكتابة والتصوير والمونتاج، وفي تلك المدة كتبت سيناريو "رحلان"، وأخرجت الفيلم بالشراكة مع زميلتي "فادية ابراهيم"، وهو ضمن مشروع منح دعم الشباب، وانتقلت بعدها لإنجاز ديواني الأول "حلم". وتخللت هذه المدة كتابتي لمواسم متتالية من مهرجان "سوق عكاظ"، حيث خضت لمدة ثلاث سنوات في قصص وحكايات العرب في الجاهلية وصدر الإسلام وما بعدهما، هذه التجربة بذاتها أضافت إلى موهبتي قيمة كبيرة، وخصوصاً الشعرية».

في مكتبة الأسد ضمن معرض الكتاب الدولي

وعن عملها بالمجال السينمائي، قالت: «في الفن كما يقولون أعطني فكرة لأنسج لك منها ألف حكاية، كل فكرة تنشأ من خصوصية معينة وضرورة مختلفة عن الأخرى تتفرع عنها طرائق مختلفة بالمعالجة والتقديم، وما بين القصص الواقعية والخيال نجد دائماً خيوطاً متشابكة ومتشابهة، أحيانا نعيش قصصاً في الواقع هي أعمق وأغرب من أي خيال. نحن الآن في السنة السابعة للحرب التي طالت جميع جوانب الحياة؛ فمن الطبيعي مهما طرحنا من الأفكار أن تبقى جميعها تحت مظلة الحرب من معاناة الطفولة إلى قصص الحب. أكتب عن الأنثى الطفلة، والمراهقة والناضجة وحتى الأم، وهي الجزء الأكبر ممن تبقى من المجتمع السوري، والمؤثرة والقادرة على إحداث الفرق».

وتابعت الحديث عن أعمالها الشعرية، فقالت: «بحكم مكانتي كزوجة وأمّ فأنا منغمسة كلياً بعائلتي التي تحظى بالقسم الأكبر من وقتي، إلا أنه في زحمة هذه التفاصيل، فإن أقلامي ودفاتري على كثرتها موزعة في كل أنحاء البيت، دائماً ورقتي تحت مرمى الفكرة، وحبري في بيت النار، جعبتي من الكتابة متنوعة كما حياتي، حيث ألتقط كل إشارة حتى ولو كانت ومضة من غريب لتعالجها روحي وتنفثها حرفاً وكلمة. حتى يكتب أي إنسان يجب أن يشعر بغيره؛ بإنسانيته وهمساته، وتقاسيم وجهه وما تخبّئ ورائها من صرخات أو ضحكات، وكما أستقي من إحساس غيري يجب عليّ إيصال إحساسي به إليه، فتعليقات الأشخاص وآراؤهم حول ما أقدم هي النتيجة التي أنتظرها بعد كل عمل، ودائماً أتمنى أن تكون نتيجة إيجابية، وإلا فإن المهمة غير مكتملة».

وعن ديوانها الذي حمل عنوان: "حُلُم"، قالت: «صدر باللهجة النبطية؛ لهجة عربية محكية. هذا النوع من الشعر له بحوره الخاصة التي تشبه بحور الشعر العربي الفصيح، وليس غريباً عن بيئتنا، ناله الاستهجان في بداية تقديمي له، مع أن الشاعر "عمر الفرا" عرف بهذا اللون الشعري، وهناك أغنيات قديمة وحديثة لمطربين عرب غنّوا قصائد نبطية. قصائدي موجهة إلى جميع الفئات والشرائح؛ فكلام الحب والغزل يستطيع الوصول إلى جميع المستويات الثقافية والاجتماعية، فمثلاً قصيدة "وصية الشهيد"، أظنّ أنها ستلامس كل بيت، فبلادنا لطالما قدمت شهداء، وقصيدة "رحمة" التي تحمل بعداً إنسانياً وتحكي قضية المرأة المطلقة والأم وحضانتها لأبنائها».

من ديوانها "حُلُم" اخترنا:

"قلّي يا نوراً فِ عيني

يا تُرى باقي نظر...

مِنْ اِجت عينك فِ عيني

قلبي ما صدّق خَبَر..

مِنْ ورا خاطِر فؤادي

ليه تِماديت السّفر..

كنت اَحبك، دلِّ قلبك

ولا تعاملني بكُبر..

يا عزيزٍ عن ودادي

لا تِخامرني القَهر

لا تِكبر، لا تِجَبّر

عودِ لي.. مرّة العُمر".

لدى استفسارنا عن عوامل نجاح أعمالها، قالت: «للشراكة الفكرية بين المخرج والكاتب أهمية كبيرة لإنجاح أي عمل درامي أو سينمائي أو مسرحي، ففي حالة الإلغاء التي يعتمدها بعض المخرجين تجاه الكاتب تؤدي بالنتيجة إلى عمل منقوص، وأحياناً العكس، وفعلياً المخرج شريك في العمل وربانه. التجارب الدرامية التي خضتها كانت موفقة، ففي أي حلقة أو لوحة تم تصويرها كانت تتم كحالة متكاملة بالاتفاق بيني وبين المخرج، وهناك أعمال خرجت منها حتى لا أتعرض للإلغاء أو التهميش الفكري، ففي النهاية ظهور اسمي على عمل يحمل مسؤولية كبيرة، وأنا مسؤولة عما أقدم».

وعن الاختلاف بين الكتابة الدرامية والشعر من وجهة نظرها، قالت: «في الكتابة الدرامية هناك تكنيك ومنطق لبناء الأحداث والشخصيات وقواعد لسير العمل الدرامي، يستغرق وقتاً لا يقل عن ثلاثة أشهر من العمل المتواصل، وربما يتخلله تعديل؛ كنسج خطوط درامية جديدة. أما في القصيدة، فيختلف كل شيء؛ هي من تستدعي شاعرها، وتأخذه نحو عالمها تلقنه بوحها وتتركه عندما تريد، تعلن نهايتها فيرتفع القلم عن الورق ببلاغتها وصورها ووزنها وإيقاعها وقافيتها، تولد مكتملة وتُكتب بما لا يتعدى عدة دقائق، وتتغاوى ببلاغتها وجمالها على الصفحة البيضاء».

الشاعر والكاتب والصحفي "تمام بركات" المتابع لأعمال "جوبان"، قال: «أن تقول امرأة دمشقية الشعر النبطي البعيد عن بيئتنا، في حين تذهب أغلب الشاعرات نحو كتابة ما يمكن تسميته بالشعر السياحي، فهو أمر جميل وغريب بآن معاً. "رماح" رومانسية في الطرح، مواضيعها بسيطة ولغتها أيضاً بسيطة، لكن لماحة، تحب جوهر الفكرة».

بدوره المخرج والناقد السينمائي "نضال قوشحه" أعطانا رأيه بالأعمال السينمائية لـ"جوبان"، فقال: «تعرّفت إليها من خلال الوسط الثقافي والسينمائي وكذلك التلفزيون، إنسانة مجتهدة ومثابرة، والتزاماتها الاجتماعية لم تكن عائقاً أمام تحقيقها نتائج إيجابية. عندما انتسبت للحصول على دبلوم السينما أثبتت جدارتها وكانت من الطالبات المجتهدات، فلمدة سنة كاملة كانت تسعى جاهدة لتثبت نفسها بهذا المجال، وقدمت في نهاية الدبلوم فيلماً مصوراً كباقي زملائها، حيث شاركت فيه بسينما الشباب، ولاحظت لمساتها الفنية الموجودة بالفيلم؛ فهي تتمتع بشخصية هادئة وأنيقة، ويتجلى ذلك بحديثها وثقافتها. فاجأتني بأنها تكتب الشعر النبطي المعروف على المستوى العربي، ووجودها في هذا المكان الإبداعي يؤكد أنها تمتلك طاقات إبداعية متعددة».

الملحن والموسيقي "سمير كويفاتي" الذي سجّل أشعار "جوبان" بالاستديو الخاص به وقدمه هدية لها لقناعته بموهبتها، قال: «كانت المرة الأولى التي ألتقي شاعرة تكتب الشعر النبطي. الشاعر "عمر الفرا" كتب الشعر النبطي الذي أعرفه جيداً، والغني بمواضيعه وطريقته وأسلوبه بالطرح، إلا أن "رماح" مختلفة بالمواضيع، وكانت المعاني جديدة نوعاً ما، حيث تشعرني بأنني داخل خيمة بدوية معطرة بالعطر الفرنسي والياسمين الشامي. "رماح" لديها القدرة على جذب أسماعنا باختيار الموضوع الذي نحن بحاجة إليه، أظنّ أنها بحاجة إلى من ينشر ما تكتبه، وخاصة النصوص التي يمكن تحويلها إلى أغنيات».

يذكر أن "رماح خليل جوبان" من مواليد "دمشق"، عام 1985.