المضافة أو "المنزول"، ومن لا يعرف تلك الغرفة التي كان يهيئها ويخصصها المخاتير ووجهاء الأحياء في منازلهم لاستقبال الضيوف، "المضافة" أحد رموز الكرم والعطاء في ريفنا السوري والتي ما زالت حاضرة برونقها وتراثها في حياتنا.

موقع "eSyria" وبتاريخ 5/9/2009 كان له وقفة مع الأستاذ "محمود سمور" أحد المهتمين بأمور التراث والفلكلور في الريف السوري ليحدثنا عن المضافة وضرورة وجودها وسماتها: «لم تقم ظاهرة وجود المضافات نتيجة ترف أخلاقي أو مادي لدى وجهاء وزعماء الريف السوري في البلدة أو الأحياء فحسب، بل نشأت في أساسها الموضوعي لتعكس عمل أهالي المنطقة في الإنتاج الزراعي، فإنها شكل من أشكال تجليات خصوصيات عشرتهم وسلوكهم وعقليتهم وتوجههم القيمي، وبالتالي فقد جاءت لتلبي حاجة نشاطهم الاجتماعي ولترسيخ عاداتهم وتقاليدهم ولقضاء وقت فراغهم الطويل في فصل الشتاء، وفي الواقع كانت العلاقات بين الناس إبان تعاطي معظم أهالي الريف العمل الزراعي لا تخلو من مشاكل كثيرة ومتنوعة، فكان من البديهي أن يتصدى العقلاء وأصحاب الشأن والجاهة من الأهالي لحل هذه النزاعات والخلافات، وبالطبع كان لابد لهؤلاء الوجهاء من مكان ليعقدوا فيه اجتماعاتهم ولتقام فيه دواوينهم، وعلى هذا كما نلاحظ نشأت المضافة لتكون بمثابة دار محمكة وتشريع وإدارة وتنفيذ وغيره».

كانت تتصف أحاديث المضافات يومئذ بجديتها ومن أقوال العرب السائرة في هذا الشأن "فَرَحُ الرجال جِدُّها"، لأن معظم القوم بطبيعتهم كانوا جديون بحديثهم في المضافات، ومع ذلك لم يكن الآباء يمانعون حضور الأولاد اليافعين جلسات المضافة إذا ما التزموا بآداب الجلوس والإصغاء

يكمل الأستاذ "محمود": «كانت تعتبر المضافة متعددة المهام والدرجات، فهي محكمة عقارية، شرعية، صلحية، مدنية وجزائية، وعنها كانت تصدر الأحكام المستندة إلى الأعراف والعادات والتقاليد السائدة قبل كل شيء، وبقوة هيبتها ونفوذها الاجتماعي والمعنوي كانت تنفذ تلك الأحكام والقرارات دونما حاجة لرجال الدرك، فكانت المضافة بمثابة الفندق والمطعم للغرباء كما أنها كانت مكاناً للتسلية وملء الفراغ لأهل وأبناء الحي».

محمود سمور

وعن الشروط التي يجب توافرها لنجاح المضافة يقول: «لنجاح المضافة بمهامها هذه كان لا بد وأن يتوفر لدى صاحبها شرطان أساسيان، أولها أن يتمتع صاحبها بالمكانة الاجتماعية والهيبة المعنوية بالإضافة إلى ما هنالك من سمات شخصية وخصائص خلقية فطرية يجب أن يتحلى بها صاحبها، كالكرم والتسامح والرزانة وغيرها من الصفات الحميدة، وثانيها توفر الإمكانية المادية اللازمة للإنفاق عليها، وهنا يجدر التذكير بأنه لم تكن جميع نفقات المضافة لدى بعض الوجهاء والمخاتير على حسابهم الخاص، بل كان جزء منها يقدمه الفلاحون للمختار أو للوجيه كمساعدات بديلة لجهوده وتفرغه، وكانت تتمثل بإهدائه الدجاج والبيض والخرفان والسمن وما شابه، وبخاصة عند استقباله ضيوفاً غرباء أو مسؤولين في السلطة».

إذاً من البديهي أن ينحصر وجود المضافات في منازل الوجهاء وزعماء العائلات ومخاتير الأحياء الكرماء والقادرين على الإنفاق عليها، وعن ميزات غرفة المضافة يخبرنا الأستاذ "محمود": «من ميزات مبنى غرفة المضافة أن تتميز قبل كل شيء بموقعها قرب مدخل الدار بنوافذها المطلة على الطريق العام، وسعة مساحتها التي كانت تتناسب ولا شك مع مدى رفعة ووجاهة صاحبها ومهامه الاجتماعية، ولا يفوتنا هنا أن ننوه إلى أن مجرد وجود بقايا القهوة في الشارع العام أمام باب المضافة هو بمثابة إشارة دالة للغرباء وللمارة على وجودها، وبالتالي دعوة صريحة ودائمة للدخول إليها».

مستلزمات المضافة

يتابع الأستاذ "محمود" حديثه متطرقاً إلى أمور أخرى تميز المضافة العربية: «كانت تتوضع في صدر غرفة المضافة أي في منتصف الجدار المقابل لباب المضافة موقدة النار من أجل طبخ القهوة المرة ومن أجل التدفئة، ويعلوها عادة رف مصنوع من طينة لزجة معجونة بألياف من "الخيش" لاحتواء دخان الموقدة وجمعه وحصره ما أمكن، وليخرج من المدخنة إلى الوسط الخارجي، وكان يوضع على ظهره الرف البارز عن الجدار "السّراج" الزيتي أو المصباح البترولي أو "اللوكس" اللذان يشعلان بـ"زيت الكاز" أو ما شابه، وكانت تعلق على جدارها "الصدراني" السيوف والخناجر أو ربما أيضاً جلود حيوانات الصيد وغير ذلك، أما الجدران الجانبية للمضافة فكانت تستخدم لتعليق "نرابيش" الأراكيل وأدوات طبخ القهوة عليها كـ"المحماسة" و"برّادة" حبات القهوة الخشبية».

يتابع "سمور": «وكانت تحتوي على ما كانت تدعى بـ"الكتبيّة" لوضع النراجيل والمهباش "الجرن" وبعض المستلزمات فيها، وإلى جانبها توجد ما كانت تسمى بـ"الخرستانة" وهي عبارة عن كتبية لها بابان قابلان للإقفال تستخدم لوضع مواد طبخ القهوة فيها، وما كانت المضافة لتخلو أيضاً من حفرة كبيرة وإلى جانبها حفرة صغيرة في جدار مدخل الباب أي قرب العتبة لوضع جرة الماء و"طاسة" الشرب النحاسية، وما كان ينبغي حين تصميم مبنى المضافة نسيان وجوب الإبقاء عند مدخلها على عتبة منخفضة عن سطح أرضها ليخلع الضيوف أحذيتهم الملوثة بالطين فيها».

مضافة قديمة من الطين

المضافات العربية لها أثاثها وفرشها الخاص بها، وعن ذلك يقول الأستاذ "محمود": «كان أثاث المضافة يخضع من حيث عناصره وشكله لطريقة الجلوس المحببة لدى الأهالي يومئذ، حيث كان يروق لهم الجلوس على الأرض لذلك كانت تفرش المضافة بالسجاد والبسط على الغالب، وعلى محيطها كانت تطرح "الطراريح" المحشوة أحياناً بالقش أو بقشور "عرانيس" الذرة أو بما شابه، ومن ثم يوضع فوقها ما كان يعرف بـ"السنادات" لفصل ظهر الجالس عن الجدار وحمايته من البرد أو من التلوث بحواره الأبيض، كما يوضع عليها "التكاءات" وهي المساند التي يضطجع عليها الجالس ليأخذ راحته».

وعن تراتبية أماكن الجلوس في المضافة يضيف: «لم يكن الجلوس في المضافة عشوائياً، ولم تكن جميع الأماكن فيها متساوية، حيث إنّ ثمة تراتبية يجب مراعاتها حين الجلوس في المضافة، كانت تبتدىء في علوها شأناً من قرب الموقد الكائن على الأغلب في صدر المضافة، وتتناهى دنوها إلى العتبة وتحت الجرة، وفي هذا المقام قال أحد الشعراء متفاخراً "ونحن أناس لا توسّطَ بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر"، فهذه التراتبية كانت على أسس ومعايير مادية أو أخلاقية وثقافية».

أما عن أحاديث المضافة فيخبرنا "سمور" وهو يسترجع بذاكرته إلى تلك الأيام: «كانت تتصف أحاديث المضافات يومئذ بجديتها ومن أقوال العرب السائرة في هذا الشأن "فَرَحُ الرجال جِدُّها"، لأن معظم القوم بطبيعتهم كانوا جديون بحديثهم في المضافات، ومع ذلك لم يكن الآباء يمانعون حضور الأولاد اليافعين جلسات المضافة إذا ما التزموا بآداب الجلوس والإصغاء».

وعن القهوة العربية التي هي رمز من رموز المضافة العربية يكمل الأستاذ "محمود" حديثه معنا: «من عاداتنا نحن سكان المشرق العربي بعامة وسكان الريف بخاصة أن نستقبل نهارنا بفنجان القهوة المرة ونحتفل بختام يومنا بفنجان منها، إذ هي من المشاريب الأولى في ريفنا وبوادينا وبعض مدننا أيضاً، ولا يكون ديوان أو مضافة أو ضيافة مع غيابها، هي شركيتنا في ومضة الفكرة، بل الواحة التي نتنفس الصعداء بين أحضانها، بأنفاسها الحارة نلاقي أحبتنا وضيوفنا، وبعبق بهارها نودعهم، إنها الرمز الملائم لروحنا وموروثنا، وفي الواقع لا يمكننا الحديث عن المضافات والمنازيل دون أن نتكلم عن القهوة المرة العربية وما يتعلق بها من عادات ومعتقدات وأفكار وقيم أخرى، فهي من الرموز الأساسية للمضافات العربية في الريف والمدينة أيضاً».

ونهاية الحديث مع الأستاذ "محمود سمور" أحد المهتمين بأمور التراث والفلكلور في الريف السوري كان قوله: «الملاحظ أنه بالرغم من التحولات التي طرأت على أسلوب الإنتاج الزراعي وبالتالي على نمط الحياة بعد تدني مستوى الزراعة في الريف السوري والاهتمام بها مازال الكثيرون من أبناء الريف يهتمون بوجود المضافات ولكن بمفهوم أضيق، حيث أصبح وجودها يتمثل بغرفة مخصصة بشكل دائم لاستقبال الضيوف الخصوصيين لكل عائلة، ولهذا الأمر دلالات ومعان عديدة، إذ أنه يجسد استمرار مفهوم الكرم والضيافة لدى أهالي الريف السوري من ناحية، ويدل على بقاء وامتداد العلاقات الاجتماعية السابقة بما كان يلازمها من خصوصيات في العشرة والسلوك والعقلية والعادات والتقاليد حتى اليوم من ناحية أخرى».