ليس وحدهم الرجال لا يزالون يقصدون حمامات السوق في دمشق، فالعديد من الفتيات والسيدات لا يزلن هن الأخريات يتجهن إلى الحمامات المخصصة للنساء بين الفينة والأخرى لقضاء وقت ممتع، والاسترخاء بعيداً عن أجواء العمل ويوميات الحياة المتعبة.

إذ رغم قدمها، وما مر على البلاد من حروب وأوضاع اقتصادية صعبة وتحولات اجتماعية أسهمت في قلب بعض من العادات والتقاليد، إلا أن الحمامات الدمشقية بقيت حاضرة في حياة شريحة من السوريين، اعتاد أفرادها في أيام العطل والمناسبات ارتياد الحمامات لإجراء حمام ساخن وتناول وجبة طعام خاصة مع الأهل والأصدقاء.

كانت المواد الرئيسية لبناء الحمام الآجر والحجر البازلتي والحجز المزاوي، ويعدُّ الآجر المادة الأساسية للبناء في حين يستخدم الحجر البازلتي لأنّه حافظ للحرارة، في حين أن الحجر المزاوي مضاد للرطوبة إضافة إلى أن تباين الألوان بين الحجر البازلتي الغامق والمزاوي ذي التعريقات الفاتحة يعطي جمالية وأناقة للبناء، وتتميز أسقف الحمامات بأنها على شكل قبب لينتشر الصوت ويقلّ الضجيج في القسم البراني

وحسب ما تروي المصادر التاريخية فإن تاريخ حمامات السوق يعود إلى العهد الروماني، حيث كانت مقصداً لجميع الناس فيما كانت الحمامات المنزلية مقتصرة على المقتدرين مادياً والذين لديهم مكانة مرموقة لذا نجد تفاوتاً في عدد الحمامات التي تم إحصاؤها على مرّ العهود، فقد ذكر "ابن عساكر" في 571 هـ أسماء 57 حماماً كانت موجودة في عهده، وبعده بمئة عام ذكر "ابن شداد" سنة 674هـ أسماء 114 حماماً، منها 85 حماماً داخل السور مع ملاحظة عدم ذكر حمامات الصالحية، وبعده بنصف قرن ذكر "أبو حسن الأربلي" أنه في عهده كان هناك 135 حماماً، وفي القرن الثامن وصل عدد الحمامات إلى 23 حماماً، أما القرن التاسع وأوائل العاشر فقد بُنيت حمامات جديدة عُرف منها 6 حمامات، وصولاً إلى العصر العثماني الذي شهد بناء واختفاء العديد من الحمامات ليتراوح عددها في تلك الفترة بين 60 – 62 حماماً، وذكر "القساطلي الدمشقي" 1300هـ أسماء ما يقارب 60 حماماً كانت عاملة في عهده، لتأتي دراسة "ايكوشار ولوكو" في عام 1360 وتذكر أسماء 60 حماماً في دمشق منها 19 حماماً توقفت عن العمل أو تحولت وظيفتها، وكانت آخر الدراسات المنشورة عام 1986م ذكر فيها أن 27 حماماً فقدت وظيفتها.

القباب والمناشف المستخدمة في الحمام

وفي عام 2021 فإن الآثاري "جوزيف حنا" يؤكد في حديثه لمدوّنة وطن :"eSyria" إن عدد الحمامات الدمشقية ٢٤حماماً داخل السور و١٣ حماماً خارج السور (ضمن الشرائح الأثرية المسجلة) منها ما يزال يمارس المهنة وعدد كبير توقف عن العمل أو تحول الى وظيفة أخرى أو مغلق، ولا يمكن إحصاء رقم نهائي لها على كامل جغرافية مدينة دمشق، فعددها داخل الشرائح الأثرية المسجلة وخارجها يتبدل من عام إلى أخر لأسباب عديدة، حيث يبلغ عدد الحمامات المسجلة بقرارات افرادية هو ١٦ حماماً.

التصميم العمراني

تتميز الحمامات الدمشقية بتصميم عمراني خاص كان يشهد بعض التعديلات لمواكبة التطور والحداثة عبر العصور، ويقول "لؤي كبب" وهو مهندس معماري وصاحب حمام "أمونة": «كانت المواد الرئيسية لبناء الحمام الآجر والحجر البازلتي والحجز المزاوي، ويعدُّ الآجر المادة الأساسية للبناء في حين يستخدم الحجر البازلتي لأنّه حافظ للحرارة، في حين أن الحجر المزاوي مضاد للرطوبة إضافة إلى أن تباين الألوان بين الحجر البازلتي الغامق والمزاوي ذي التعريقات الفاتحة يعطي جمالية وأناقة للبناء، وتتميز أسقف الحمامات بأنها على شكل قبب لينتشر الصوت ويقلّ الضجيج في القسم البراني».

حمام القرماني

ويتابع "لؤي" الحديث عن تقسيمات الحمام والتطورات التي طرأت عليه في الحاضر: «يقسم الحمام إلى أربعة أقسام من الداخل، قسم يسمى "الأميم" حيث يوجد شخص يدعى "الأميمي" مسؤول عن تسخين الماء، لكن اليوم أصبحنا نعتمد على المراجل أو ما يسمى بالحراقات لتسخين المياه، ليليه القسم الجواني ذو الحرارة المرتفعة مقارنة ببقية الأقسام ويتكون من إيوانين متقابلين يتوضعان على طرفي بيت النار وضمن كل إيوان يوجد جرن أو أكثر يحتوي على ماء ساخن ينساب من بيت النار عبر شبكة تجري تحت أرض الحمام كما تتفرع عن كل من الإيوانين غرف تحوي كل منها جرناً خاصاً وهذا القسم مسقوف بقبة ذات فتحات زجاجية، ليأتي بعده القسم الأهم في الحمام وهو "الوسطاني" المسؤول عن تعديل حرارة جسم الشخص عند الانتقال من القسم الجواني إلى البراني والعكس وهو مسقوف بقباب تحوي فتحات زجاجية لينفذ منها الضوء، لينتهي بالقسم الأخير وهو البراني الذي يتم فيه استقبال الزبون وإعطاؤه المناشف للدخول إضافة إلى تقديم المشروبات المعروفة من شاي خمير وزهورات شامية بعد الانتهاء من الاستحمام وفي بعض الحمامات يتم تقديم الوجبات الخاصة بالحمام منذ القديم كـ(المجدرة والحرّاق بإصبعه)، ويتميز القسم البراني بوجود بحيرة ماء في وسطه تعطي جمالية للمكان، إضافة إلى الاسترخاء الذي يبعثه صوت تدفق الماء من النافورة في نفس الشخص».

طقوس الحمام

تحافظ حمامات السوق في الوقت الحالي على الطقوس التي كانت عليها منذ إحداثها، وحسب ما يذكر "لؤي" فإنه: «يتم استقبال الزبون وتقديم المناشف التي تعدُّ من التفاصيل المهمة في الحمام، وتتميز كل منشفة بنقوشاتها المختلفة عن غيرها فالمناشف التي تقدم قبل الاستحمام تختلف عن المناشف التي تعطى في القسم الوسطاني عند الدخول للاستحمام، والمناشف التي توضع على الخصر تختلف عن التي تغطي أكتاف الزبون عند انتهائه من الحمام وجلوسه في القسم البراني لتناوله المشروبات الساخنة والنرجيلة، وأصبحت الحمامات في الوقت الحالي لا تقتصر على الاستحمام فهناك التدليك والتكييس وبالنسبة للنساء يضاف لما سبق الأقنعة الخاصة بنضارة الوجه وكل ما يخص العناية بالبشرة وجمالها والحمام المغربي وغيرها».

قبة الحمام الناصري

من بين طقوس الفرح الكثيرة المرتبطة بحمامات السوق الاحتفالات الخاصة كالحفلات التي تقام للعروس قبل زفافها، وحفلات الأعراس، إضافة إلى المولد والطهور، وجمعات نهاية الأسبوع، كما أن بعض الحمامات تقيم الحفلات الشرقية والتخت الشرقي "عود وقانون وغيرها، وكان للمسلسلات التي تحاكي البيئة الشامية دور في تسليط الضوء على حمامات السوق وإثارة فضول الناس لزيارتها والتعرف عليها عن قرب.

اضطرت كثير من الحمامات خلال سنوات الحرب لإغلاق أبوابها متأثرة بالأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن أزمات المياه والكهرباء وفقدان المشتقات النفطية جعل من بعض الحمامات مقصد الكثيرين للحصول على حمام دافئ والاسترخاء والدفء والنظافة.