بين سوق "الحميدية" والجامع الأموي... وسوقي "العصرونية والقباقبية" تقع ساحة "المسكية"، تستوقفك هذه الساحة قبل التسرب إلى أحياء "دمشق" العتيقة... تستنفر حواسك كلها... تدفع عينيك للدوران في أرجائها الواسعة، قبل أن تركز على شيءٍ معين، أو تقرر أي اتجاه ستسلك...

ربما يغريك أحد عناوين الكتب في سوق "المسكية"؟ أو تستوقفك تحفة ما في محلات الانتيكات! لعلك تريد التوجه لزيارة الجامع الأموي، أو الانحناء أمام ضريح "صلاح الدين الأيوبي"! أو أنك تريد الاستمتاع بنثر حبات الذرة لطيور الحمام التي تحط في الساحة مسرعةً، قبل أن تعود إلى فضائها العتيق، أو ربما يستهويك رسم "بورتريه" لك أو لمن تحب في عشرين دقيقة بريشة فنّان متجول...

كان خالي يملك محلاً لبيع القرطاسية في السوق... لطالما بعت كتبي المدرسية القديمة هنا، واشتريت كتباً جديدةً بدلاً عنها... روحي معلقة بهذه المنطقة...

في ذلك الفضاء الغني بالتفاصيل البصرية، حاولت "eSyria" تتبع تاريخ "المسكية" وملامح حياتها، في إحدى ساعات الذروة من نهارٍ دمشقي...

في سوق المسكية

سوق "المسكية" سمي بذلك الاسم، نسبةً إلى تخصص باعة السوق بالمسك، والعطور، وكان اسمه سابقاً سوق "الكتبيين"، أو "الوراقين"..

بحسب روايات أهل المنطقة: كان السوق في الماضي يحتل مساحة الساحة كلها، حيث تباع الكتب واللوازم المدرسية، والمسك ولوازم الحجاج... حتى المطابع كانت هنا والمحلات متلاصقة على صفين متقابلين، وتمثل امتداداً لسوق "الحميدية" وصولاً إلى الباب الغربي للجامع الأموي.

نعمي حمادة الأيوبي

لم يكن هناك طريق يؤدي إلى سوق "العصرونية"، أو ضريح "صلاح الدين" من الجهة الشمالية، كان الطريق مفتوحاً فقط من جهة الجنوب، باتجاه سوق "القباقبية".

الجدار الغربي للجامع الأموي لم يكن مكشوفاًَ أيضاً، كانت تغطيه دكاكين الصاغة المتلاصقة، أو محلات بائعي النعال الجلدية، تغير الحال في العام 1984م عندما تم هدم معظم السوق، للكشف عن جدار الجامع الأموي والمعالم التاريخية للمنطقة.

استراحة

في العام 2004م اكتمل ترميم الساحة لتأخذ شكلها الحالي: الأرضية مرصوفة بحجر البازلت، والماء ينبثق من بين الحجر ليأخذ شكل النافورة في الزاوية الجنوبية الغربية... ديكور المحلات المحيطة بالساحة يتداخل فيه "الأرابيسك" مع الزجاج المعشق، والمشربيات تتصدر الجدران من جهتين متقابلتين، لتصبح الساحة أشبه ما تكون بفناء داخلي لبيتٍ دمشقي.

غالباً ما تقتنى المصاحف من "سوق المسكية" وتباع فيه الكتب والتسجيلات الدينية، والبخور والمسواك، والمسابح والطواقي، والزينة لمناسبات الحج والعمرة، ومولد النبي (ص)... يقصده المسلمون من كل أنحاء العالم لشراء الكتب الدينية التي تشتهر بها "دمشق"، ككتاب "إحياء علوم الدين للإمام الغزالي"، و"السيرة النبوية لابن هشام".. واليوم تجد فيه أيضاُ، كتب الطبخ والأبراج، عدد تجار السوق لا يتجاوز اليوم ال 12 تاجراً، اشتهروا بهذه التجارة منذ القدم ومنهم: "سباعي وشيخ التوت والعقاد وحب الرمان" لبيع الكتب، و"الجلاد ومحروس" للعطور.

ما تبقى من محلات سوق "المسكية"، لا يتجاوز اليوم عدد أصابع اليد، وتحتل الزاوية الشمالية الغربية من الساحة ومنها: محل "ناصر شحادة"، وفيه التقينا "عمار" الذي تحدث لنا عن جده "أحمد شيخ التوت": «بدأ جدّي تجارة الكتب على -بسطة- مقابل مؤسسة البريد الحالية، وعندما تحسنت أحواله المادية اشترى محلاً في سوق "المسكية" أي قبل ستين عاماً... افتتح مكتبةً في ذلك الوقت أسماها بمكتبة "مدارس" وورد ذكرها مع صورة الجد في كتاب "أسواق دمشق"... وما زلنا نعمل في هذه المهنة إلى الآن، وإن كنا اليوم لا نمتلك محلاً خاصّاً بنا..».

في الزاوية المقابلة يوجد عدد من محلات التحف قصدنا منها "قصر الحير الشرقي" لنلتقي بأبي مصطفى "إبراهيم محمد سلمى" الذي روى لنا حكايته مع هذا السوق: «جئت إلى سورية في عام 1948م في أعقاب نكبة فلسطين، كنت أعمل في الطباعة، وتجليد الكتب بأحدى دور الأيتام في "القدس"، دخلت سوق "المسكية" في العام 1949م، اشتغلت في مطبعة "النسر" لصاحبها المرحوم "محمد علي الرز"، ثم أصبح عندي مطبعة تخصصت بطباعة ورق تغليف الحلويات "الرولو"... مطبعتي كانت فيما يعرف ببيت "قطنا" الذي تحتل مكانه الآن نافورة المياه في الساحة... في العام 1976م أخذت هذا المحل ليكون مطبعتي الجديدة، وفي العام 1984م عندما هدم سوق المسكية قررت تحويل المطبعة إلى محلٍ للتحف أصبح فعلياً ثلاث محلات... كان أصحاب المطابع في سوق "المسكية" ذوي سمعةٍ جيدة ويتعاونون كثيراً فيما بينهم بعيداً عن منطق المنافسة السائدة اليوم، وأذكر منهم: "عارف ملص، راتب قدح، حتاحت وموصلي" وغيرهم... لم يبق من مطبعتي "مطبعة الربيع" سوى هذه الساعة المعلقة على الحائط للذكرى..»

ودعنا "أبو مصطفى" لنلتقي بالرسام المتجول "نعيم حمادة الأيوبي" الذي أخذ مكانه على حافةٍ عمودٍ عتيق قبالة الباب الغربي للجامع الأموي، بدا "نعيم" بلحيته الطويلة البيضاء جزءاً من ذاكرة المكان، تعلو رأسه نماذج لـ"بورتريهات: صور شخصية "مرسومة بالرصاص يعلوها عبارة: «ارسم صورة شخصية لك بعشرين دقيقة» هكذا يقول الإعلان المتواضع الذي علقه إلى جانبه.. وعن ذكرياته عن المكان قال: «هذه الساحة جزء من حياتي، أنا أعمل هنا بشكلٍ متواصل منذ ثلاثة عشر عاماً، اتخذت مكاني هنا عند زاوية هذا القوس الروماني، وأحياناَ أرسم تحت الشجرة المقابلة... كنت آتي إلى سوق "المسكية" في فترة الطفولة لأشتري لوازم المدرسة والألوان، لطالما اشتريت من هذا السوق نسخاً عن لوحاتٍ فنية تعود إلى عصر النهضة الأوربية... كنت أقلدها وأبيعها وكان هذا أهم تمرين فني تلقيته... أجمل ذكرياتي في هذه المنطقة كان عام 1986م، أذكر أنني جئت مع أصدقائي لإحياء إحدى ليالي رمضان في الجامع الأموي، وكنت قلقاً أن لا يفوتني السحور، ولكنني عندما خرجت من باب الجامع، وجدت أن الليل تحول إلى نهار... أصوات الباعة، وازدحام الناس مازال عالقاً في ذاكرتي إلى الآن.. هكذا تبدو الساحة في ليالي رمضان حتى الفجر..»

عندما تشاهد رفوف الحمام في ساحة "المسكية" قد يخطر لك أنك في ساحة القديس "بطرس" في "روما"، لكن يكفي أن تمعن النظر جيداً حتى تتأكد أنك هنا في "دمشق" قبالة جامع "بني أمية" الكبير، ورفوف الحمام التي تصل الأرض بالسماء، طالما عاشت هنا، وتفيأت ظلال قبة "النسر" وظلت لزمن طويل تقتات على ما ينثره الزوار من الحبوب في صحن الجامع، ولأن أعداد الطيور تتزايد باستمرار وحراس الجامع ضاقوا ذرعاً بمخلفاتها، أصبحت الحبوب تنثر لها في ساحة "المسكية" لتأكل في الخارج وتكتفي بالراحة فقط في حنايا "الجامع الأموي".

"محمود تركماني" يدير تجارة رائجةً اليوم في هذه الساحة، يبيع القمح والذرة في أكياس لإطعام الحمام، ويقبل عليه الأطفال والكبار بسعادة كبيرة، "محمود"- كشاش حمام المنطقة- اعتادت عليه الطيور، تقبل عليه بمجرد صياحه: «تعي... تعي...» ينثر الحبوب ويبدأ العرض، وبإشارةٍ منه: يطير الحمام... يحط الحمام ..

لا يمكنك التجول في المنطقة دون أن يخطر لك زيارة الجامع الأموي، أو على الأقل استراق النظر من البوابة لفسيفسائه الذهبية التي تلمع تحت الشمس، وفي الساحة الخلفية للجامع من الجهة الشمالية- إلى الجانب الشمالي الشرقي لساحة "المسكية"- يرقد القائد البطل"صلاح الدين الأيوبي" بسلام.

ولمن تعب من التجوال له أن يتناول وجبة خفيفة في مطعم "أراميش" الذي يتناغم مع المكان رغم حداثة إنشائه، أو يمكن أن يتناول كأساً من عصير الفريز أوالبرتقال أو الرمان أو التوت الشامي- حسب الموسم- وذلك من عربة "رشاد عبود" التي تعود للعام 1984م .. يتذكر "رشاد" الكثير عن سوق "المسكية" و بينه وبين المكان حالة تعلقٍ أشبه بالعشق: «كان خالي يملك محلاً لبيع القرطاسية في السوق... لطالما بعت كتبي المدرسية القديمة هنا، واشتريت كتباً جديدةً بدلاً عنها... روحي معلقة بهذه المنطقة...»

بعد استراحةٍ قصيرة، لك أن تحدد اتجاهك ابتداء من هذه الساحة... هل تذهب إلى "القباقبية والبزورية والنوفرة"؟ أم "العصرونية" "العمارة"...؟ أم تعود إلى

"سوق الحميدية"...؟ كل الاتجاهات تتقاطع هنا.