حمل التاريخ على كتفيه، فهو أحد أحفاد شيخ الجبل "سنان راشد الدين"، الذين حكموا منطقة "مصياف"، وقد سكن أجداده قلعتها مدة 800 عام حتى جاء الفرنسيون سنة 1920، فقرر ألا يكون مجرد عابر سبيل في هذه الدنيا.

مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 23 تشرين الأول 2017، التقت الموثق "علي المير ملحم" ليحدثنا عن طفولته، حيث قال: «لم تكن طفولتي تشبه طفولة باقي أقراني، ففي عمر الخامسة كنت آخذ قطعاً صغيرة من الخبز المدهون بالزبدة أو الجبن، وأطعم أفعى معمرة كانت مختبئة في جحر بيتنا القريب من القلعة، حتى انتبهت والدتي إلى تصرفاتي، وتم القبض عليّ بالجرم المشهود، وقتل والدي الأفعى ببندقية الصيد "الجفت"، بعد أن وجه إليّ العديد من الملاحظات. وبعد مدة قرر والدي إرسالي للدراسة، وكانت حينئذٍ عند الكتّاب، ومنذ اليوم الأول لي في الكتّاب ضرب الشيخ أحد الطلاب، وهو ابن عمي، فحملت "طراحتي" التي زودني بها أهلي كي أجلس عليها، ورحت أضرب الشيخ، وهربت من دون رجعة؛ لذا وجد أهلي فرصة سانحة في انتقالنا للسكن في "اللاذقية" لتعليمي النظام والالتزام بالواجب، فدخلت مدرسة "الفرير" التي كانت تديرها جمعية إرسالية فرنسية، وكان النظام فيها صارماً جداً والتعليم باهظاً، وجميع المواد كانت تدرّس باللغة الفرنسية باستثناء اللغة العربية، وكان أهم ما تعلمته فيها أن للوقت ثمناً عالياً؛ وهو ما أثر في معظم أعمالي المستقبلية، فالعادات القديمة تموت بصعوبة، والالتزام بكل هدف وتحقيقه هو إنجاز يستحق الثناء بحد ذاته».

من الشخصيات التي ما زالت حتى اليوم موضع تقدير ومحبة من كافة أبناء "مصياف"، ومن أبرز وجوهها الاجتماعية والسياسية، وقد أعطى الكثير من وقته وجهده وفطنته ليخدم أبناء وطنه، فمعظم كتاباته وأعماله مستقاة من خير الوطن ورغبته بتطويره، وحسّه الوطني العالي

أما عن بدايات عمله في المجال السياسي، فقال: «كنت طالباً في الابتدائية عندما وقعنا عريضة ضد الاحتلال الفرنسي من دون أن نعرف محتوياتها ونتائجها، كل ما كنا نعرفه أنها ضد الاحتلال، وعلى إثرها تم فصلي من المدرسة حتى حضر والدي وحلّ الموضوع، لكن تشجيع والدي على العمل لمصلحة الوطن ولمعة الفرح في عينيه كان كفيلاً لتشجيعي طوال حياتي على اتخاذ موقف يضمن أن تكون مصالح "سورية" أولويتي؛ لذا كنت في كل عمل أسعى لإنجازه بإتقان وحرفية مهما صغر، وقد تابعت دراستي وتخرجت في مدرسة "الفرير" عام 1942، ونلت شهادة "السرتفيكا" الفرنسية التي أهلتني للعمل في التدريس، فتقدمت لمسابقة المدرّسين، ونجحت عام 1948، وعينت مدرس لغة إنكليزية في منطقة "سلحب"، ثم عدت وأكملت دراسة البكالوريا عندما دخلت السجن لأسباب سياسية تتعلق بانتمائي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، فقد كان الصراع السياسي في ذروته حينئذٍ، ثم تابعت دراستي الجامعية، ونلت إجازة في الحقوق عام 1964، وعينت إثرها مستشاراً قانونياً بمؤسسة الاستصلاح بمدينة "الثورة" في "الطبقة"».

علي المير ملحم

أما عن عمله التوثيقي، فقال: «تميزت الفترة الممتدة من الاستقلال وحتى الحركة التصحيحية بالصراع الفكري والإيديولوجي، الذي انعكس على دور الأحزاب وعملها السياسي والاجتماعي والتثقيفي، حيث تمثلت ذروته في الصراع بين الأحزاب العلمانية، مثل: "القومي السوري، والشيوعي، وحزب البعث العربي الاشتراكي"، والدينية، مثل "الإخوان المسلمين"، وكانت جميعها تتصارع لتثبيت مواقفها وتوجهاتها وآرائها في المجتمع السوري. وكانت التكتلات السياسية والأحلاف والانقلابات سيدة الموقف، وكان هدفي من نشر كتاب يتحدث عن تلك الفترة الزمنية، توثيق الحوادث والمواقف والصراعات التي أدت وساهمت بتكوين الحالة الراهنة، حيث تكونت صراعات وعُززت تكتلات سمحت بصعود قوى وأفول أخرى، وخلق حالة من الإدراك والوعي بالشخصيات التي صنعت التاريخ السوري من وجهة نظري الخاصة، وأظن أن معرفتي بالعديد من الشخصيات المفصلية مكنتني من توثيق الحالة بدقة؛ فكل من "وهيب غانم، وزكي الأرسوزي، وكمال خير بيك، وسليمان المرشد"، وغيرهم لعبوا أدواراً بارزة وقيادية تستحق تسليط الضوء عليها، وعلى الرغم من سجني مرات عديدة، ومنعي من مزاولة عملي الحزبي، وحكمي بالإعدام غيابياً، إلا أنني كنت دوماً ألقى الترحيب والمحبة والاحترام من الجميع. ومع أنني وثقت الشخصيات المفصلية التي خاضت الصراع في "سورية"، إلا أنني لم أنسَ الحديث عن معظم المناطق التي زرتها أو سكنت فيها، ومنها: "مصياف، واللاذقية، والقدموس، والرقة"، وعملت على توثيق الحالة النقابية والمنظمات الناشئة والأمراض الوافدة، وحتى حالة التعتيم التي فرضتها الحرب العالمية الثانية من طلي النوافذ والمصابيح باللون "النيلي"؛ لذا كانت تتم دعوتي إلى معظم الفعاليات والاحتفالات والتنظيمات النقابية، وقد مكنتني هذه المشاركات من تعزيز عملي التوثيقي والسياسي».

الدكتور "ياسر بازو"، حدثنا عن عمل "علي المير ملحم"، بالقول: «كوّنت كتاباته حلقة توثيقية مهمة لتاريخ الصراع على "سورية" بعيداً عن التشنج الطائفي أو الحزبي أو العقائدي، وتعدّ مرجعاً لكثير من الدراسات والكتب الأخرى، فقد اعتمد نهج الواقعية بعيداً عن الاستنتاج والتأويل والتنظير، وكان لنظرته العميقة في التحولات السياسية التي مرت أثناء فترة الانقلابات عميق الأثر في خلق حالة من الوعي لما يمر به الوطن من ولادة عسيرة احتاجت إلى تكاتف كافة شرائح المجتمع للنهوض بقدراته وتطويرها».

كتاب صراع و أشواك على الطريق

وأضاف: «من الشخصيات التي ما زالت حتى اليوم موضع تقدير ومحبة من كافة أبناء "مصياف"، ومن أبرز وجوهها الاجتماعية والسياسية، وقد أعطى الكثير من وقته وجهده وفطنته ليخدم أبناء وطنه، فمعظم كتاباته وأعماله مستقاة من خير الوطن ورغبته بتطويره، وحسّه الوطني العالي».

الجدير بالذكر، أن الموثق والكاتب "علي المير ملحم" من مواليد "مصياف" عام 1927، نشر عدداً كبيراَ من المقالات في الصحف اللبنانية، كما نشر كتاباً يوثق مرحلة مهمة من تاريخ "سورية" السياسي يحمل عنوان: "صراع وأشواك على الطريق"، وقد كان الأمين العام للحزب السوري القومي الاجتماعي في منطقة "مصياف".

د. ياسر بازو