على أطراف جبل البلعاس، وعلى بعد 15 كيلومتراً من مدينة "سلمية" شرقاً، تقع ناحية "بري الشرقي" الشهيرة بأشجار الزيتون والكرمة وتلّتِها الأثرية الشاهدة على جزء كبير من تاريخ المنطقة.

تعدُّ القرية من الأماكن التاريخية في المنطقة كونها تحوي مؤشرات كثيرة تؤكد أنّ الإنسان سكنها منذ القديم، ومارس فيها نشاطات زراعية مختلفة بدليل وجود الكثير من الكهوف والمغاور المنتشرة غرب البلدة وشرقها وجنوبها، فهناك مغاور ضخمة كانت موجودة بالقرب من خزان المياه الرئيسي حالياً؛ على جدرانها رسوم بدائية بمغرة حمراء تدل على إنسان ما قبل التاريخ 3200 قبل الميلاد.

يعود اسم "بري" لشخص من عشيرة "آل الفضل" من قبيلة "طي" قتل ظلماً، حيث كان ضحية شجار بين أفراد عشيرته في العهد المملوكي، وكتب على شاهدة قبره باللغة العربية القديمة "الفضل بن عيسى بن مهنا" وهو ما يسمى الآن مقام "النبي بري"، ويضيف الدكتور "ضياء موسى" المهتم بالتاريخ قائلاً: <<يعود إعمار "بري الشرقي" الحديث إلى عام 1876 وقد تم في إطار ما يسمى إعمار "سلمية" الذي بدأ عام 1848، حيث استوطنتها عائلات كثيرة جاءت من قرى "الخوابي" والقدموس" في "طرطوس"، طامعين في خصوبة أرضها وغزارة مائها ولطافة جوّها؛ فبنوا بيوتهم الطينية حول تلّها الأثري العائد للعصر الآرامي والألف الثانية قبل الميلاد، وتم استصلاح الأقنية الرومانية (64 قبل الميلاد، 395 ميلادي) فبدؤوا بتعزيلها وتنظيفها وإعادة تأهيلها فأخذت مياهها تنساب بغزارة تروي الأراضي السهلية، والتي أخذت تتسع باتساع استصلاحها، ولم يمض عام على بناء "بري الشرقي" حتى جذبت خضرتها وخصوبة أرضها مزيداً من الأسر التي فضلت الاستقرار فيها>>.

الأقنية وهي 8، يذكرها الدكتور "موسى" فيقول : "<<الصفصافية" وتقع شرقي بري بـ3 كيلومترات على طريق "بري الشرقي، "عقير بات"، وتبدأ طريقها بنفق تحت الأرض بعمق 6 أمتار، تتخللها فوّهات بين الفوهة والأخرى 15 متراً متجهة نحو الشمال الغربي، وقبل أن تصل القناة للطريق العام بحوالي مئة متر يوجد نبع آخر يرفدها، والواقع اليوم شرق منشأة الدواجن بحوالي عشرة أمتار، وتمر فيها قناة قادمة من تخوم أراضي "عرشونة" حيث كانت تنبع قريباً من تل "الحد" بحوالي كيلومتر، أما القناة "الصغيرة" فتقع للشرق من قرية "القبب" التابعة لـ"بري الشرقي" وإلى الغرب من قناة الصفصافة، وقناة "التل الكبير" وتنبع من جنوب شرق التل" الصغير" بحوالي 800 متر من نبع عمقه 12 متراً وتجري في نفق صخري تتخلله فوهات بين الواحدة والأخرى 20 متراً ليسهل تعزيلها وهي تسير لسقاية الأراضي الزراعية، وتبلغ مئتي دونم ولكن لم يعاد تعزيلها منذ 1876، وقناة "فريتان السقي" وتنبع من شمال غرب تل قرية "فريتان" الأثري بحوالي 300 كم وآبار هذه القناة تنخفض عن سطح الأرض دون أن يكون هناك ردم وأكوام ترابية تحيط بفوهاتها من الأعلى، وذلك بسبب السيول الجارفة التي كان آخرها السيل الذي ضرب منطقة "سلمية" ككل في 27 أيار 2007 وهذا السيل كان له تأثير سلبي حيث خرّب تلك الآبار ذات الطبيعة الترابية الهشة حيث جعلها السيل على مستوى سطح الأرض ولم يبقَ ما يدل عليها سوى بعض الحشائش والأعشاب التي تنمو فوق فوهتها، وقناة "أم صفا" تقع شرق "بري" بحوالي كيلومتر من جهة اليمين على طريق "سلمية" "عقير بات" تنتهي في البركة الصخرية التي تقع من الجهة اليسرى للطريق، وقناة "النبع الأم" تنبع من هضبة خفيفة الارتفاع ذات تربة كلسية بيضاء جنوب مدجنة الدكتور "ماهر زينو"، وعلى مسارها آبار ضخمة كبيرة تصل فتحتها إلى حوالي أكثر من مترين بشكل دائري وبعمق ثمانية أمتار عند النبع، وتتماشى مع التضاريس باتجاه الشمال الغربي مكونة شققاً مفتوحة ضخمة وفتحات تهوية صخرية قطر الواحد منها متر فقط قبل وصولها إلى البركة من جهة الجنوب، و"بئر التوءم" وهي إحدى آبار القناة المشهورة بفتحتها الواسعة، حيث كان شباب القرية يمارسون فيها السباحة، وسجلت فيها حادثة غرق لشخص يدعى "فايز زينو" عام 1964، وأما بركة " أم صفا" فتقع غرب منبع القناة باتجاه الشمال الغربي بحوالي مترين ونصف المتر وهي محفورة في الصخر، فوهة آبارها حوالي ثلاثة أمتار مربعة، بعمق متر مربع وهي آخر نقطة تصل إليها القناة، وقناة "رأس العين" تنبع من جنوب البلدة يطلق عليها الأهالي عدة تسميات منها "ضهره القناية" و"قناة جب رضوان" آبارها متساوية فيما بينها، وعند مصبّها تسمى "رأس العين" فتحاتها واسعة تبلغ المترين على مسافات تتراوح بين 15 و20 متراً بين الفتحة والأخرى، والقناة "الغربية" حالتها سيئة فالقاطنون الجدد عام 1876 قاموا بردمها نهائياً ولم يبق منها أي أثر، وقناة "نبع مقام النبي بري" تقع بقاياها في الجهة الشمالية الغربية من البلدة بالقرب من مقام "النبي بري" حالياً؛ لها عدة موارد تغذيها أولها نبع غزير يقع اليوم بجانب النادي الرياضي القديم شرق المقبرة بحوالي مئتي متر، وهناك مياه أقنية قادمة من الشرق تغذيها، كان مجرى القناة ضخماً وهو بحالة جيدة اليوم لكنه للأسف أصبح مجرى للصرف الصحي، و"قناة شاليش" وسميت كذلك نسبة لشخص يدعى "شاليش" الذي كان يقوم بتعزيلها وكان هارباً من الجيش العثماني ومختبئاً في سراب هذه القناة، وهناك عائلة في القرية يعود نسبها إليه>>.

مختار القرية حالياً "محمد رحمة" يتحدث عن أيام معاصرته لتلك الفترة الذهبية للقرية فيقول: كان أهل القرية يزرعون الزيتون والزيزفون والمحاصيل الزراعية والخضروات، ويربون الأبقار والأغنام والدواجن كالبط والحمام والدجاج، وتذهب النساء لبركة "أم صفا" ذات الماء الصافي والمذاق الطيب، لغسل الثياب بواسطة مخباط خشبي بمادة الشنان، كما كانت محط رحال القوافل التجارية القديمة تحمل مياهاً للشرب مؤونة طريق السفر، بالإضافة لكثرة الأسماك فيها بشكل طبيعي، وكانت هناك بئر ضخمة تعود ملكيتها لآل "زينو" ركب عليه مدار يجره دابتان، لسحب الماء العذب منها للشرب؛ وكان أهل الخبرة يقومون بتعزيلها كل خمس أو ست سنوات آخرها 1958، أما الآن فالقرية تعاني العطش وتشتري المياه لمتابعة الحياة، وأهلها متمسكون بجذورهم فيها، لقد جفت ينابيعها بعد تجفيف سهل الغاب لزراعة القطن فيه منذ عام 1955>>.

أجري هذا اللقاء في 9 شباط 2021.