الطبيعة الجميلة جذبتني فعشقتها عشق الفنان، وأعجبت بها كإعجاب العاشق بمحبوبته، وتعاملت معها بلطف وبحذر، وخدشتها بريشتي وألواني، فرسمتها وخلّدتها بأروع ما لديّ من ألوان مطبوعة على ثغر الطبيعة... تلك الألوان المشمسة، وتلك المياه النقية الرقراقة التي تحيط بضفافها الأشجار المتراقصة، مع نغمات الحياة وأعاصير الطبيعة وزفرات المطر وضحكات الطفولة.. من هنا كانت البداية مع الريشة واللون والمساحات البيضاء المرعبة للوحة، وحين دخلت المدرسة بدأت ألملم الحروف المنثورة في الكتب.. أقرأ.. وأكتب وأكثر الرسم على السبورة، ولم يعد يفارقني الطبشور الملوّن ولا علبة الألوان الخشبيّة وقلم الرصاص...

هكذا قدم الفنان التشكيلي سركون بولص نفسه في سياق حوار موقع ehasakeh معه، موضحاً ان البداية كانت في المدرسة عبر مجلّة الحائط ورسومات متواضعة للموادّ وكتابة التوجيهات، وكان أوّل معرض في الصفّ السادس بالألوان المائيّة في المركز الثقافي.. وفي السبعينيات رسمت عن فلسطين والمقاومة واللاجئين بألوان يكلّلها السواد مع اخضرار، كناية عن الاستشراف بالنصر والمرحلة الواقعية، كما رسمت عن النصر في حرب تشرين والإنسان والشباب، وبدأت القراءة عن الحضارة، خاصّة السوريّة «ما بين النهرين» فجاءت ألواني الزرقاء عن البحر والصيّاد والكروم والحبّ والحياة.

ويضيف بولص: بعدها ذهبت إلى بغداد للدراسة، ومنها غادرت إلى اليونان ثم إلى إيطاليا، درست وتعلّمت وزرت العديد من المراسم والمتاحف، وبعد عودتي أقمت العديد من المعارض الفردية منها: معرض الهواء الطلق عام 1972 في الحسكة، ومعرض تجمّع الفنّانين 1981 في دمشق، ومعرض مهرجان الشباب 1974في ألمانيا، وملامح الفنّ العربيّ عام 1976 في كوبا، والعديد منها في أعوام متتالية في الحسكة ودمشق حتّى عام 1999.

من لوحات الفنان سركون بولص

بولص الذي يستمدّ موضوعات لوحاته من البيئة ومن التاريخ السوري ومن الحياة اليومية بتنوعها وزخمها وعنفوانها يقول: رسمت الطبيعة السورية «الجزراوية، الساحلية، الجبلية».. رسمت الجندي والعامل والفلاح والمرأة بكلّ ما تجسده من حنان وعطاء، والشيخ والطفل والثائر والعاشق وما يربطهم بالمجتمع والوطن وحبه وتطوره.

وعن الواقع التشكيلي في الحسكة، وموقع المحافظة على الساحة الفنية والثقافية قال بولص: الحركة التشكيلية في الحسكة لها باع مؤثر في الحياة التشكيلية، وهي قدمت مجموعة من الفنانين الكبار في سورية، ولهم أيادي بيضاء، ومعارضهم الفردية والجماعية وفكرهم وموضوعاتهم لها أثر واضح وجلي على الثقافة، وما لها من خيط يربط بين العمل الفني والجمهور، وهذا التواصل «مقدس» يؤثر ويتأثر من خلاله بفكر المجتمع بالرغم من تنوع الثقافات في الوقت الحاضر.

ألوان مطبوعة على ثغر الطبيعة..

الفنان بولص عرض لأهمّ متطلّبات الفنّان التشكيلي في المحافظة، وللصعوبات التي يعاني منها بالقول: الفنان في الحسكة بعيد عن مركز الانتشار والتعريف والعرض، وأقصد هنا العاصمة والمدن الكبيرة المليئة بالصالات والغاليرات التي يلاقي فيها الفنان رواجاً لأعماله من خلال الصحف والمجلات والنقاد والمقتنين وتجار الفن، ممّا يهيئ الأرضية بالإغراء والتعويض للاستمرار والتطوّر ونشر وتعريف الفنان، ومن أهم الصعوبات التي تواجه فنّاني الحسكة كما ذكرنا، اهتمام ودعم المؤسسات الحكومية والرسمية والمنظمات بأعمالهم الفنية، وزجّهم في الأعمال الإنشائيّة والفنية والديكور وتكليفهم بما يلزم فنّياً حسب اختصاصهم، ليقدّموا أعمالهم مبدعين في ذلك أعمالاً ملؤها الحضارة السورية والبيئة والتراث.

عن أهمّ عوامل الجذب للفنان التشكيلي كي يحقّق التواصل مع الحياة قال بولص: الفنان بأعماله ولوحاته وموضوعاته وثقافته متواصل ومتعمق، مؤثر ويتأثّر أصلاً بالحياة وتغيراتها ومحركها الإنسان، وهو لا يحتاج لمحرّض كونه محرض سلفاً من خلال تطلعاته وحساسيته ورؤيته الثقافية والاجتماعية واللونية، أما إذا كان التحريض على العرض وكم من اللوحات، فهذا يتطلب الوقت والمادة والمكان والتفرغ الفني، واللوحة بحد ذاتها أصبحت من حيث تكلفتها عبئاً على الفنان، كقيمة المواد ومستلزماتها بغض النظر عن ولادتها العسيرة وتعبها فكرياً وإبداعياً وزمانياً.