تشربت بذور الفن بطريقة صحيحة، ورؤيتها للقطع القماشية المعطرة بذكريات الطفولة أسهمت بتنمية حسّها الفني، لتأتي رياح الغربة وتزرعها في الخارج، فيكون الفن ملجأها الوحيد، وبالإبرة والخيط تعود إليها روحها؛ فتنقل إحساسها بإحياء وتشكيل وزخرفة أجمل القطع الفنية الممزوجة بعبق الشرق.

التغير والتجدد ومساحة الجمال الذي تشعر به "إيمان الأكشر"، والموهبة المدعمة أكاديمياً؛ أسهمت بتنمية الحسّ الفني، فحملته إلى بلاد الاغتراب ليعينها على الغربة، حيث تحدثت عن مسيرتها الفنية لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 22 تموز 2018، بالقول: «عشقت الرسم منذ صغري، وكنت أقضي معظم وقتي متكئة فوق أوراقي البيضاء ممسكة بقلم الرصاص وعلبة التلوين بجانبي، وبعمر الثالثة طلبت من والدتي أن تعلّمني شغل الإبرة الذي شعرت بأنه رسم بطريقة أخرى، وقد أبهرني شغل "الكنفا" وخاصة النافرة. ولوالدتي الفضل الأكبر بزرع بذرة الفنون بداخلي، فقد كانت متجددة وتحب التغيير باستمرار، وتملك مهارة الاستفادة من القطع القماشية بإعادة تشكيلها وخياطتها من جديد، لتحولها إلى قطع تزيينية تحتل زوايا مهمة في بيتنا وتغلّف بها ألعابنا وأدواتنا الشخصية».

تتميز أعمال "إيمان" بالرقي والإتقان والدقة في التفاصيل، فعملها يحتاج إلى وقت وصبر. وما تقوم به من تغيير وتعديل على المفروشات أو الأدوات المنزلية ذات الإطار الفخم المذهب، وبداخله شغل "الأوبيسون" أو "الإيتامين" مبهر، والنتيجة دائماً عمل كلاسيكي أنيق، والمتابع لأعمالها خاصة "الأوبيسون" يجد فيها شيئاً من النمط الفرنسي الراقي، فهي دائماً قادرة على صناعة الجمال من كل ما حولها

قررت دخول عالم التصميم بكامل تفاصيله، الذي تعلّمت أبسط فنونه وأدقّها، فالعمل في مجال الخياطة والتصميم لا بد أن يبدأ بخطوات ثابتة وصحيحة، وإلا ستعتاد اليد الحركة الخاطئة، ويصبح التصحيح أصعب من التعلّم من جديد، وتابعت: «بعد حصولي على شهادة الثانوية العامة دخلت في مجال تصميم الأزياء بانتسابي إلى المعهد الفرنسي الخاص "Esmod" في مدينة "دمشق"، ولمدة ثلاث سنوات تعرّفت أهم دور الأزياء وتاريخها. وينقسم عالم الأزياء إلى نوعين: الملابس الراقية، والملابس الجاهزة، وتعلمت أن تصميم الأزياء ناتج مجموعة عناصر في تكوين موحد (الخط، والشكل، واللون، والنسيج)، وتعلّمت كيفية دمج الألوان الأساسية للحصول على مشتقات اللون ودرجة اللون المطلوبة، وكيفية رسم (المانيكان) بوقفات متعددة مع تعلّم مقاسات الجسم وطريقة رسم تفاصيل الوجه، ثم إضافة الإكسسوارات المناسبة. تخرّجت وحصلت على المرتبة الثانية، حيث حمل مشروع تخرجي عنوان: "Pastel"، ويعني الألوان الهادئة والفاتحة، وهي ألواني المفضلة، وقد استوحيت خطوط تصاميمي وألواني من صورة مبنى مملوء بالأشكال الهندسية، واستطعت عن طريق الرسم والتفصيل إظهار الخطوط المستقيمة والمنحنيات مع الأشكال الهندسية في الملابس».

من أعمالها المشغولة بحرفية عالية

وتابعت: «بالنسبة لي اللوحة كائن حي علينا أن نبرز جماله مع المحافظة على خصوصيته. انتقلت مع أسرتي إلى "الولايات المتحدة الأميركية"، ولأشغل نفسي أعطيت شغل الإبرة (الكنفا) كامل وقتي وجهدي، كنت أجلس أحياناً لمدة خمس ساعات متواصلة وأنا أعمل، وكانت هذه الطريقة الوحيدة لأبتعد عن التفكير بألم الغربة والبعد عن الوطن والأهل، فهذا النوع من الأعمال يساعد الإنسان على التوازن والشعور بالثقة والسعادة، ويشعره عند ممارستها بالهدوء والسكينة؛ إذ تتطلب الكثير من الصبر والانتباه إلى أدق التفاصيل للحصول على النتيجة المطلوبة. إحدى اللوحات استغرقت مدة تسعة أشهر؛ فخطأ بسيط مثل زيادة قطبة واحدة أو العكس أو وضع قطبة في مكان غير مكانها يشوه اللوحة وسأضطر إلى فكها، وتكرار مثل هذه الأخطاء يؤثر في الشكل الخارجي للقماش. شغلي بالإبرة ليس بعيداً عن التصميم، حيث يعتمد على قماش يدعى "الإيتامين"، وهو فن ظهر منذ قرون، وكان أساساً للصناعات المنزلية عند الشعوب المختلفة، وتتنوع أقمشة "الإيتامين" من حيث الشكل والثخانة، وحركة الإبرة، ونوع القطبة، حيث أحدد طريقة العرض مستفيدة من دراستي الأكاديمية بمزج أكثر من شكل فني في التصميم».

وعن كيفية تحول الهواية إلى مهنة في بلاد الاغتراب، قالت: «علمت من صديقة لي عن وجود دورات فن وأعمال يدوية، فانتسبت إلى صف يدعى "صائد الكنوز"، وتعلّمت إعادة تدوير قطع الأثاث، حيث كنا نشتري قطع أثاث مستعملة ثم نعمل على تجديدها، واستفدت من إتقاني لشغل الإبرة بأن أضيف قماشاً مشغولاً بطريقة يدوية عوضاً عن الأقمشة الجاهزة والمعروفة، وبعد الانتهاء أقوم بـ (تنسيل) "الإيتامين" ليظهر الرسم على القماش الأصلي، وهذا النوع من الأعمال مميز ونادر هنا، وخاصة قطع الأثاث ذات الطابع الشرقي، كالصندوق الخشبي، فلم يكن يخلو بيت عربي منه، وأتذكر أن جدي كان يملك واحداً منه، وانتقلت ملكيته إلى والدي، فقمت بدهنه والاعتناء به، ثم أعطيته طابعاً شرقياً؛ إذ اخترت رسم (الستنسل) الذي يشبه النقش العربي».

من أعمالها المحدثة التي أعطتها طابعاً شرقياً

وعن أهمية التكنولوجيا وخاصة شبكة الإنترنت في العمل، قالت: «على الرغم من أن عملنا يدوي والموهبة هي الأساس، لكن وجود التكنولوجيا سهّل مهمتنا وفتح بصيرتنا وذائقتنا الفنية، وسمح لنا بالاطلاع على الكثير من الأعمال المشغولة بطرائق مختلقة واحترافية عالية، وباشتراكي في المواقع التي تعنى بالفن تعرّفت إلى أدق التفاصيل وسيدات مثلي، فكل واحدة منا أضافت خبرتها، ومن خلال الأسئلة والأجوبة كنا نتعلم، ورؤيتي لأعمالهن وإبداعاتهن أسهمت باكتساب أفكار جديدة كنت أستخدمها بإحياء الأشياء التالفة، وأقدم موهبتي بطريقة جديدة، فالتعرّف إلى إبداعات الآخرين يخدم موهبتك، ومشاهدتي للكثير من الفيديوهات التعليمية سهّلت عملي وأكسبتني مهارة ودقة».

الأستاذ "شون كليفتون" الذي أشرف على تعليم "إيمان" في "الولايات المتحدة"، قال عن أعمالها: «لقد قمت بتدريسها منذ سنتين. أعجبت بموهبتها ودقتها في العمل، إضافة إلى رغبتها الدائمة في تعلّم كل ما هو جديد. عملنا معاً على الفخار والرسم والدهان وتنسيق الألوان، إضافة إلى إعادة التدوير، أدهشتني موهبتها الرائعة بشغل الإبرة سواء بالخيوط أو الشرائط، وجودة عملها ودقتها المتناهية، إضافة إلى صغر حجم الغرز يكاد يجعل كل من يرى لوحاتها يظنّ أنها مرسومة بالفرشاة والألوان، أو أنها صورة فوتوغرافية. وعندما أهدتني لوحة لصورة كلبي المفضّل، كل من شاهدها لم يصدق أنها مشغولة بالإبرة والخيط، وزملاؤها في الصف معجبون بأعمالها وذوقها الرفيع ذي الطابع الشرقي والتراثي؛ فأي قطعة خشبية تحوّلها إلى تحفة فنية».

مشغولاتها بالإبرة والخيط

بدورها الفنانة التشكيلية "ديما كروما" حدثتنا عن أعمالها بالقول: «تتميز أعمال "إيمان" بالرقي والإتقان والدقة في التفاصيل، فعملها يحتاج إلى وقت وصبر. وما تقوم به من تغيير وتعديل على المفروشات أو الأدوات المنزلية ذات الإطار الفخم المذهب، وبداخله شغل "الأوبيسون" أو "الإيتامين" مبهر، والنتيجة دائماً عمل كلاسيكي أنيق، والمتابع لأعمالها خاصة "الأوبيسون" يجد فيها شيئاً من النمط الفرنسي الراقي، فهي دائماً قادرة على صناعة الجمال من كل ما حولها».

يذكر أن "إيمان الأكشر" ولدت في مدينة "حمص" عام 1978.