رشحه كثيرون من محبيه عبر العالم لنيل جائزة نوبل بعيد رحيله القريب، ومع أن الجائزة لا تمنح للمتوفين إلا أنهم ما زالوا مستمرين في دعوة كل المهتمين للضغط على إدارة الجائزة العالمية لمنحه إياها.

دفع "خالد الأسعد" حياته من أجل الواحة التي ولد فيها وقضى فيها أكثر عمره وهو يجول وينقب في بقاياها التي أخرجت من رمال الزمن المتحركة إلى الوجود ووضعتها "اليونيسكو" على قائمة المواقع الأثرية العالمية.

لا يمكن الحديث عن "تدمر" من دون ذكر "الأسعد"، إنه بالنسبة لنا كما هو العالم "هوارد كارتر" بالنسبة للمصرييين

مثل "الأسعد" جيلاً كاملاً من الآثاريين السوريين والخبراء بالمعرفة والاهتمام، تذكر "ميساء إبراهيم" مديرة قصر العظم حالياً وأحد الذين أشرف على دراستهم في الماجستير في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 3 أيلول 2015: «لهذا الرجل حضوره في كل بحث يكتب عن "تدمر"، في كل المراجع العربية والأجنبية بلغاتها العالمية سوف تجد اسمه كما لو كان التميمة التي تربط بين كل الباحثين المفتشين عن أسرارها، لا يمكن لأي إنسان تعامل معه أن ينساه، حملت رسالتي للماجستير موضوع الألبسة والأنسجة التدمرية بإشرافه، أذكر أنه قضى أكثر من خمس ساعات يجول بي في قاعات متحف "تدمر" يشرح لي كل ما يشاهده أمامه من منحوتات ومنسوجات وألبسة وغير ذلك».

من القطع التي أنقذت من "تدمر"

ولد "خالد الأسعد" كما تقول سيرته الذاتية بالقرب من معبد "بعل شمين" الذي أشرف على ترميمه لاحقاً في اليوم الأول من عام 1932، وعاش أكثر حياته في تلك الواحة منقباً ومشرفاً ومكتشفاً لآثار "تدمر"، فكان مديراً لآثار "تدمر" وأميناً لمتحفها بين العامين 1963 حتى 2003، كما كان رئيساً أو مشاركاً في بعثات التنقيب والترميم العاملة في "تدمر" وبعثات أجنبية ووطنية ومشتركة.

عمل في أهم مشروع سوري عالمي لإحياء "تدمر" هو "المشروع الإنمائي التدمري" ما بين 1962-1966، حيث اكتشف القسم الأكبر من الشارع الطويل وساحة الصلبة (التترابيل) وبعض المدافن والمغارات والمقبرة البيزنطية في حديقة متحف "تدمر" واكتشاف مدفن "بريكي بن أمريشا" (عضو مجلس الشيوخ التدمري)، وبقي حتى عام 2003 مدير الجانب السوري في جميع البعثات السورية والأجنبية المشتركة العاملة في "تدمر" (السويسرية - الأميركية - البولونية - الفرنسية - الألمانية).

"ميساء إبراهيم" مديرة قصر العظم

في عام 2008 عثر على منحوتة حسناء "تدمر" الرائعة الجمال، وكذلك مدفن أسرة "بولحا بن نبو شوري"، ومدفن أسرة "زبد عته"، ومدفن "بورفا وبولحا"، ومدفن "طيبول"؛ كما أشرف على ترميم بيت الضيافة عام 1991، وفي نفس العام قام مع البعثة الوطنية الدائمة للتنقيب والترميم في "تدمر" بإعادة بناء أكثر من 400 عمود بالكامل من أروقة الشارع الطويل ومعبد "بعلشمين" و"معبد اللات" وأعمدة ومنصة وأدراج المسرح، وكذلك الأعمدة التذكارية الخمسة المعروفة، إضافة إلى إعادة بناء المصلبة وأعمدتها الستة عشر الجرانيتية لمدخل حمامات "زنوبيا"، ومحراب "بعلشمين"، وجدران وواجهات السور الشمالي للمدينة.

وإلى جوار "تدمر" عمل على ترميم أجزاء كبيرة من أسوار وقاعات وأبراج وممرات القلعة العربية "قلعة فخر الدين"، وتركيب جسر معدني فوق خندقها وافتتاحها للزوار، ثم ترميم السوار الخارجي والأبراج في قصر الحير الشرقي بطول 3000 متر بارتفاع وسطي 3 أمتار، وإعادة بناء 20 عموداً مع تيجانها في جامع هشام، إضافة إلى بناء بيت الضيافة في الموقع عام 1966، وقام بربط الموقع بطريق إسفلتية معبدة عام 2000.

مومياء اكتشفها الراحل وأنقذت

عمل عبر مسيرته مع العديد من المؤسسات الدولية والعربية، فكان خبيراً في تطوير السياحة الثقافية ومشاركاً في برنامج CDTP للتطوير الأثري في موقع "تدمر"، كما عمل في برنامج الإدارة المحلية MAM، وهو مشروع مشترك بين المديرية العامة للآثار والمتاحف ووزارة الإدارة المحلية والمفوضية الأوروبية.

لم يهمل "الأسعد" عبر مسيرته التوثيق الذي يحتاج إليه أي موقع أو عمل أثري، فكتب وألّف وشارك في أكثر من أربعين مؤلفاً ترجمت إلى أكثر من ست لغات عالمية، عدا إتقانه اللغة الآرامية، اللغة السورية التي تكلم بها السيد المسيح، واللغة التدمرية، ومن أبرز مؤلفاته: "أهم الكتابات التدمرية في تدمر والعالم"، بالمشاركة مع "جان بابتيست يون" باللغة الفرنسية، 2001، و"تدمر أثرياً وتاريخياً وسياحياً"، مع الدكتور "عدنان البني"، نُشر بست لغات عام 1984، إضافة إلى مخطوطات أخرى لم ترَ طريقها للنشر بعد.

مثل "الأسعد" لكل من عمل معه خزاناً لا ينضب للمعرفة والحب، يذكر "عمر العظم" المدير السابق لمختبرات الصيانة في الآثار السورية: «لا يمكن الحديث عن "تدمر" من دون ذكر "الأسعد"، إنه بالنسبة لنا كما هو العالم "هوارد كارتر" بالنسبة للمصرييين».

فيما قال "خالد الحريري" أمين متحف "تدمر" الذي عمل هو الآخر طويلاً مع الراحل: «لقد كان كنزاً لـ"سورية" والعالم».

على الرغم من كل ما جرى في "تدمر" في المدة الأخيرة، إلا أنه بقي فيها مقاوماً ومنافحاً عنها، الكتاب المفتوح للجميع ونبع العطاء الذي لا ينضب، اغتيل في 18 آب الجاري 2015 بطريقة قاسية على يد تنظيم "داعش"، الأمر الذي أشعل عاصفة من الحزن والاستياء عبر العالم، وقد احتل خبر مقتله الصفحات الأولى في الصحافة العالمية، فيما دعا سوريون لإطلاق اسمه على عدة أماكن سورية.

  • المصادر: موقع المديرية العامة للآثار والمتاحف - السيرة الذاتية للآثاري "خالد الأسعد".