أطل على الحياة من أوسع نافذتين فداوى الجسد بامتهانه للطب، وعالج الروح من الفسحة السماوية بقوله للشعر، متنعماً بجمال الطبيعة والبيان، متشبعاً بقوة التصور ورحابة الخيال. كغيمة بيضاء كلفٌ بقراءة دواوين الشعراء المبدعين، فتكونت ثروته اللغوية، ونما ذوقه الرفيع الذي أثراه بالفكر وتجارب الحياة، ليحط كسحب ممطرة أشعاراً روت البراعم الغضة، وقصصاً عزفت على أوتار الروح.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت بتاريخ 1 أيار 2018، مع الطبيب والأديب "عبد المعطي الدالاتي" ليحدثنا عن موهبته الأدبية التي سكنته منذ الصغر، فقال: «حُبّب إليّ منذ صغري الجمال في شتى صوره، ولا سيما جمال الطبيعة والبيان، حيث أمضيت طفولتي الأولى في كنف الصحراء، فوالدي -رحمه الله- كان يعمل في المحطة الثالثة قرب "تدمر"؛ لذا فقد عشت متنعماً بالأمداء، قريباً من السماء، أصحو على أشعة الشمس، وأنام في أحضان القمر. كان كتاب الله قبلتي في الأدب؛ فأشرِب قلبي منذ الصغر الأسلوب القرآني الفريد، كما بهرني الجمال الفني الذي تجلى في الحديث النبوي والبلاغة النبوية. كما كلفت بأشعار العرب، فقرأت معظم دواوين الشعراء المحلقين، فتكونت عندي ثروة لغوية عربية اللسان، ونما لدي ذوق لغوي رفيع، وكوّنا معاً "حاسة البيان"، ومما حافظ على هذه الفطرة اللغوية قراءة أدب النوابغ والمبدعين في كل الفنون، وتجنّبي الصارم للنصوص المتكلفة ذات الأساليب الضعيفة التي شاعت في عصور الانحطاط، ويأتي على رأس الأدباء الذين أثّروا في تكوين نثري الفني أديب العربية "مصطفى صادق الرافعي"، وقد كان لوالدي دور كبير في تشجيعي على العلم والمطالعة، وكذا كان دور المدرسة متكاملاً مع البيت في صياغة منظومة الوعي وتفجير طاقة الشعر الكامنة في الأعماق، وما أروع تناغم المهد في البيت، والمقعد في المدرسة».

أعيدوا في حنايانا نشيداً فاض ألحانا نشيداً فاق في رياه آذار ونيسانا تعالوْا نحمل الأقلام أطفالاً وفتيانا أعيدوا مجد أمتنا.. أعيدوا مجدَها الآنا

وعن سبب اختياره دراسة الطب، قال: «اخترت دراسة الطب لأنني حزت المجموع الذي يؤهلني لها، ولأنني ربيت كغيري منذ الصغر على هذا الحلم الذي يحقّق للطبيب مكانة اجتماعية سامية في كل المجتمعات، وتخرجت عام 1985، وبعد ذلك درست وتخرجت في كلية الأدب العربي بجامعة "حلب". باشرت عملي في مخبري الخاص للتحاليل الطبية، وهيأ هذا الاختصاص الجو المناسب لبناء منظومتي الثقافية، فوقتي منتظم وساعات العمل محدودة. أحببتُ حياتي العملية كطبيب قريب من هموم المرضى وآلامهم، ولا تعارض البتة بين شعوري كطبيب أو أديب، فالطب يطل على الأدب، وكم من طبيب برع في مجال الأدب، كالطبيب "إبراهيم ناجي" صاحب الأطلال والقاص "نجيب الكيلاني"».

من كتابات الدكتور "عبد المعطي الدالاتي" للأطفال

واستكمل حديثه بالقول: «وجدت نفسي في الشعر، فقرأت جلّ الدواوين العربية، وتنخّلت منها المقطوعات التي تجلى فيها الصدق الفني، والصور المبتكرة، والموسيقا العذبة، وبعد شغفي بقراءة الشعر وحفظه بدأت أتلمس ينابيعه الكامنة في روحي، فبدأت محاولاتي الشعرية في بداية الدراسة الجامعية بكلية الطب، ثم أثريت هذه الموهبة بمواصلة قراءة الشعر العربي والعالمي، فللثقافة دورها. بطبيعة الحال يضاف إلى الثقافة تجارب الحياة وتشعب العلاقات الاجتماعية، فالحياة تؤلف قصصاً وأشعاراً، وكم أثرانا من حولنا من الأشخاص في تفجير ينابيع الشعر والمعاني! أكتب عادة في الليل حيث يصمت الكون، وينعدم التلوث السمعي والضجيج».

وأضاف «الشعر حالة عفوية، وإذا ما كان مفتعلاً، فلن يكون شعراً، بل نظماً متكلفاً بارداً، ولا أُكره القلم على الكتابة، فلا أحب أن أستَكتب، وإذا ما شعرت بدنو هطول الشعر، أمسك القلم بالروح، وأعيش كل حرف أكتبه، لا أتقن كتابة السطور التي لا تُرى، والتي تتسرب منها مشاعري إلى قلوب قرائي. الشاعر الحق هو الذي يتحلّى بعمق الشعور وصدق الإحساس، ويملك أذناً موسيقية للحروف وسكناتها والألحان وموجاتها، كما على الشاعر أن يمتلك قوة التصوّر ورحابة الخيال، إضافة إلى ثرائه بالفكر والفلسفة وثقافة العصر، وإذا ما وصل إلى مرحلة الرضا عن نفسه، فقد انتهى».

من دواوينه المنشورة نجاوى شعرية " أحبك ربي"

الحب الطاهر للقلب والفكر السامي للعقل والخيال المحلق للروح هما سلاح المبدع، وعن ومواضيع الشاعر قال: «كل ما يحدث في آفاق الكون وأعماق النفس، فإذا ما انفعل الشاعر، حملت سحبه ثم استراحت من أعباء المطر لتخلف قمحاً وزهراً وربيعاً. الشعر لا يبعد كثيراً عن الطب، بل يطل عليه، لأن الطبيب يتعامل مع نفس المريض مكشوفة من غير حجاب، فيكون قريباً من مشاعره وآلامه وآماله وهواجسه، وتوجهت في شعري نحو الأطفال والفتيان، إذ أعدّهم أجدى وأسرع مشروع لأي أمة تخطط للبناء الحضاري؛ فهم نصف الحاضر، وكل المستقبل».

ولعل شعر الحب أقرب إلى قلبه كما هو الأقرب إلى كل قلب، وقصصه الشعرية أكثرها من الخيال، فكم كتبت قصائد على لسان المطلقات أو الأطفال، وقال:

من أعماله بعنوان: "عطر السماء"

«أعيدوا في حنايانا نشيداً فاض ألحانا

نشيداً فاق في رياه آذار ونيسانا

تعالوْا نحمل الأقلام أطفالاً وفتيانا

أعيدوا مجد أمتنا.. أعيدوا مجدَها الآنا».

ويضيف عن دور الملتقيات الشعرية: «تساهم الملتقيات الشعرية في دفع عجلة الشعر والثقافة عن طريق المنافسة والتحفيز وتلاقح الأفكار، ووسائل التواصل الحديثة كانت منبراً لكل قلم مهما كان مستواه الثقافي والفني، وتلعب دوراً مهماً في سيرورة الشعر الجميل، ومحظوظ الشاعر الذي يظفر بناقد كبير؛ فالناقد مرآة الشاعر يُبصّره بمواطن جمال شعره لينميها، وبعيوبه ليتجنبها، ويا للأسف، فقد خف دور الأدب في السنوات العشرين الأخيرة؛ ربما بسبب قفزات الحياة الرقمية، وتعقد سبل المعيشة».

عندما تتحدث عن إنسان متعدد المواهب، تَحارُ من أين تكون البداية، فكيف إذا كان الحديث عن هامة أدبية وطبية، كالدكتور "الدالاتي". هذا ما بدأ به القارئ والمتابع والمتذوق للشعر وللأدب "سري مزيد"، وقال: «هو رجل محبٌّ ودودٌ، دمث الأخلاق، بشوش المحيّا، فالابتسامة كأنها جزءٌ من تقاسيم وجهه تكاد لا تغادره أبداً، حتى في أحلك الظروف. شكّلت أعماله نسيجاً أدبياً مختلف الألوان، حيث تحدّث فيها عن الحب والفن والجمال والمرأة والطفل، والقيم الإنسانية والأخلاق، والمفاهيم والمواريث النبيلة بأسلوب أدبي مميز؛ حيث ينقلك إلى روحانيات الفكرة التي يعالجها برشاقة ومهارة وسهولة، حتى إنك تَخَالُ أنك تقرأ ما هو مرسوم أمامك، لا ما هو مكتوب، فهو يتحدث عن الفن، بقلم شاعر، وعن الشعر بريشة رسّام، ولست أدري حقيقة، بأي عطرٍ تعتّقت دواة قلمه، فتارة حكمة، وأخرى موعظة، وهناك بيان. للبيان في أدبه سحر يلامس شغاف القلب روعة وعمقاً، فهو ينساب سلسبيلاً عذباً صافياً يتأتّى من خلفية أدبية عميقة تكونت لديه على مرّ السنين، وجمال حرف طوّعته عناية الباري عزّ وجلّ له فغدت كلماته كالماء البارد، أدركه ظمآن في يوم هَاجِر. وممّا يدخل في كنف تميّز قلمه تلك البراعة اللافتة في الاختصار، مع ضمان وصول كامل الفكرة الى القارئ من دون عناء أو تكلّف. في أدب الأطفال، كانت بصمته واضحة التضاريس، فغرّدت قصائده مع براعمهم الغضة، وتماهت مع عقولهم الحالمة، وكانت كلماتها ترانيم عذبة على شفاه براءتهم. أما نجاوى "الدالاتي"، فتلك تقاسيم على أوتار الروح وسموّ وَرُقيّ في فضاء التجلّيات الإنسانية التي تبحث عن السّكينة المُطَمْئنة».

يذكر أن الدكتور "عبد المعطي الدالاتي" ولد في مدينة "حمص" عام 1961، وخريج كلية الطب جامعة "دمشق"، وحائز على شهادتي الماجستير والبورد السوري في الأحياء الدقيقة الجراثيم والطفيليات، وشهادة البورد السوري في الدمويات.

من أعماله المنشورة، شعر للأطفال في ديوان "لكم يغني الربيع"، وديوان "لحن البراءة"، وللفتيان ديوان "عطر السماء"، كما نشر ديوان "إليك حواء"، ومن شعر النجاوى نشر ديوان "أحبك ربي".