الروح الأدبية الحالمة التي سكنت الكاتب "ميلاد ديب" ضربت جذورها عميقاً في مخيلته، فتغذت على ذكريات الطفولة، ونمت بحب القراءة، فتفجرت جملاً مكثفة حالمة الرؤيا، والمعرفة المشحونة بألف انفعال، لتحاكي الألم الكوني، ولا تشبه أحداً.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت مع الأديب "ميلاد فؤاد ديب" بتاريخ 1 شباط 2018، ليحدثنا عن انخراطه بعالم الكتابة، والبدايات التي أثرت به، وجعلته يبرع بأكثر من نوع أدبي، قال: «أكتب الشعر والقصة والمسرح، ولم أعلم أنني سأصبح كاتباً أو شاعراً حتى وقت متأخر، مع أنني كنت أحمل صفات تجعلني أنخرط في هذا العالم الجميل. ولدت ونشأت في بيت طيني بمنطقة "قطنا" حتى صار عمري ثماني سنوات، ثم بعدها انتقلنا إلى "حمص"، وقد أثّر المكان بي كثيراً بحميميته الدافئة كدفء عصفور في عشه. خطوات أمي الملفوفة على المحدلة، ووجوه إخوتي الصدئة فوق أصص الورد وقضبان الحديد، وغبار الطفولة على المقاعد، والحصبة و"أبو كعب" وبصمات الجدري على الحيطان والخدود، كل هذه الذكريات أثرت بي وسكنت بداخلي، فخرجت ملونة بأكثر من نوع أدبي. لقد عشت تجربة "حرب تشرين"، وكان عمري أربع سنوات، وأتذكر بلا خوف الطائرات وهي تحترق في السماء، وعلى ثلج "جبل الشيخ"، وأتذكر الرجال الذين ركضوا وراء طيار إسرائيلي في منطقة "راس النبع"، فركضت معهم. هذه الذاكرة القديمة تتجدد باستمرار، فأحن إلى براءة تلك اللحظة. وفي "حمص"، وفي الصف الثاني الابتدائي صفعني المعلم لأنني شردت لحظة بالعصفور الذي كان ينقر زجاج النافذة، ومن ساعتها وأنا أشرد بكل شيء، فالبطل الأعظم في كتاباتي هو الحلم، وربما عندما أفقده سأتوقف عن الكتابة».

الثقافة تصقل وتشحذ الموهبة؛ كنت أتردد إلى المركز الثقافي في "حمص" بوجه دائم، وأستعير الروايات والقصص، وأظل ساعات طويلة هناك أقرأ بشغف، فهي غذاء الروح. وكان لصديقي الشاعر الراحل "منير حبابة" دور في توجيهي أدبياً وثقافياً، فهو يحمل غنى معرفياً وشعرياً وصوتاً نادراً. تجربة عشقي الأولى اكتشفتها، فقد كتبت قصيدة لحبيبتي اسمها "قصائد محروقة"، ثم بعثتها إلى "جان الكسان" المسؤول عن صفحة "أدب الشباب" في صحيفة "البعث"، وقام بنشرها، وعندما استلمتها صرخت ورقصت فرحاً، وظللت أياماً أتخيل نفسي أنني سأقابل شاعراً كبيراً أحبه هو "محمد الماغوط"، وفيما بعد تضاءلت تلك الرغبة بالنشر، وانحسرت

وأضاف عن المرحلة التي أغنى فيها موهبته الشعرية: «الثقافة تصقل وتشحذ الموهبة؛ كنت أتردد إلى المركز الثقافي في "حمص" بوجه دائم، وأستعير الروايات والقصص، وأظل ساعات طويلة هناك أقرأ بشغف، فهي غذاء الروح. وكان لصديقي الشاعر الراحل "منير حبابة" دور في توجيهي أدبياً وثقافياً، فهو يحمل غنى معرفياً وشعرياً وصوتاً نادراً.

من أعماله المنشورة

تجربة عشقي الأولى اكتشفتها، فقد كتبت قصيدة لحبيبتي اسمها "قصائد محروقة"، ثم بعثتها إلى "جان الكسان" المسؤول عن صفحة "أدب الشباب" في صحيفة "البعث"، وقام بنشرها، وعندما استلمتها صرخت ورقصت فرحاً، وظللت أياماً أتخيل نفسي أنني سأقابل شاعراً كبيراً أحبه هو "محمد الماغوط"، وفيما بعد تضاءلت تلك الرغبة بالنشر، وانحسرت».

أطلق عليه أحد الشعراء "شاعر حقل"، وعن سبب التسمية، وتجربته الأدبية المنوعة، قال: «أنا شاعر حقل؛ كما أطلق عليّ أحد الشعراء، حيث أقيس أبعادي بالشجر، ولضيعتي "عين الغارة"، وجمالها الخلاب التأثير الكبير في كتاباتي.

مهرجان للقصة القصيرة في حلب

كتبت الشعر والقصة القصيرة جداً، والمسرح وقصصاً قصيرة للأطفال. كل الأجناس الأدبية جنسيتي، وكل ما أكتبه هويتي الحقيقية وشغفي الذي لا يحد، ولا أفاضل على أحد منها؛ لأنني بذلك أفاضل على نفسي، ولم تترك الحداثة حدوداً فاصلة بين الأنواع الأدبية، لكن على الكاتب أو الشاعر أن يكون كالصائغ البارع الذي يقوم بإبداع حليّه الخاصة، حيث تظهر أنها متكاملة الصنعة، لقد كان نصي هو من جرب هذا التداخل والتمازج بين الأجناس الأدبية، ولست أنا. وقد تكون بعض الشخوص التي أتعامل معها في الواقع ممثلة في كتاباتي، وخاصة المسرح، لكن أغلبها أشكّلها في مخيلتي، فتحيا كما ترغب هي أن تحيا. كل المواضيع هي هدف، لكنني أنحاز إلى معاناة إنسان القاع المهمش والمنبوذ. ومواصفات الكاتب الموهبة، والجرأة، والحلم، والرؤيا، والتعاطف، والشغف، وهو بلا كل هذا لا شيء؛ فالمبدع لا يكرر نفسه، ولا يقلد الآخرين، إنه من يختار طريقه بنفسه، والكاتب الحقيقي لا يرضى عن كتاباته، فهو في حيرة وقلق؛ لذا دائماً يقول في نفسه، هناك ما هو أجمل من هذا الذي بين يدي. اللغة طاقة الإنسان الحيوية وثروة ثمينة، هي لا تنبثق من العدم، ولا تأتي من المجهول. لغتي الأم هي كل ما أملك، وثروتي الطبيعة والمكان والإنسان».

وعن الحركة الأدبية ورأيه بها، قال: «قبل الحرب كانت هناك مساحة للحرية والحوار واللقاءات الثقافية والحركة ضمن المكان الفسيح؛ أقصد المدن والتنقل من دون خوف للقاء الأصدقاء، أما اليوم، فقد ضاق بنا البيت والشارع والحي والحزن. لقد ساهمت الملتقيات الأدبية في دعم الحركة الثقافية نوعاً ما، لكنها لم تعد تخلق أديباً ولا أدباً، لذلك ليس لها قدرة على الخلق، أو إغناء المشهد الثقافي. نحن نعيش اليوم أزمة ثقافة وهوية، فوسائل التواصل عولمت الفكر والشعر والجسد في مجتمعاتنا في آن واحد؛ لذلك من الصعوبة طرح فكرة الإغناء الثقافي من دون مفهوم الحرية والإبداع. كما لا يمكن أن تتحقق أي ثورة ثقافية، أو تنتصر، إن لم نقم بعمليات استئصال للزوائد الفكرية، ومحاربة العقول الإلغائية الإقصائية المتفشية في دوائر صانعي السلطة الثقافية في عموم مجتمعنا العربي».

من أعماله

الشاعر والمترجم "أحمد أحمد" تحدث عن رأيه بأعمال الأديب "ميلاد ديب" بالقول: «عرفته عن طريق وسائل الاتصال الاجتماعي، ثم نشر أحد كتبه في دار النشر خاصتي، وأصبحنا أصدقاء مقربين جداً، نتبادل الشجون كلها. له تكوين خاص لا يشبه أحداً؛ هو من صنف أولئك الذين أحبهم، لأنهم بلا آباء وبلا سقوف. يشرع ميلاد رأسه في الطبقات العليا من القول الشعريّ، من العبارة المتسامية الصافية، إلى الجملة المكثفة، حاملة الرؤيا، والألم الكوني، والمعرفة المشحونة بألف انفعال وانفعال. يضرب جذوره في الأرض، في سطحها أولاً، فيميد عالمنا السفليّ، ثم يوغل الجذر الميلاديّ إلى عمقٍ آخر وآخر، حتى يصل بنا إلى منطقة تطفو إلى جوار منطقته السماوية. وهكذا نصغي إلى نشيد الإنشاد حيناً، وحيناً إلى ارتطام بصقةِ قتيلٍ بحائطٍ هدّمته حرب سافلة.

هناك البرزخ الثالث، وهو ذات ميلاد الشجية، المتوثبة، غير المهادنة، والمحبّة، هي الذات الكليّة التي تنفث الحياة في المنطقة المحايدة بين الذاهب منه في السماء، والضارب في وحل وطين وجودنا، ما يضفي على نصه نبضاً وطعماً يشبه نبض وطعم الجرح السوري، والأمل السوري، وملوحة ما نخبئه من بكاء لم يأتِ دوره بعد».

يشار إلى أن رصيد الكاتب خمسة أعمال، هي: "لا ولن ولكن شعر" عام 2004، و"أعتذر من الفرح" – شعر عام 2005، و"ما أبسط أن تكون وحشا" شعر عام 2006، و"الحدقة" – قصص قصيرة جداً عام 2006، و"ليس على ظلي حرج" – شعر عام 2013.

وهو من مواليد "قطنا" عام 1969، يحمل إجازة في اللغة العربية، ومازال يُدرّس في إحدى مدارس مدينة "حمص".