إنه حفيد العلامة "محمد راغب الطباخ" والمؤسس الأول لجمعية العاديات ذات الصيت الذائع التي شكلت حالة حضارية في الحفاظ على آثار سورية.

عشق المكان الذي ولد فيه فنذر نفسه وعلمه ومعرفته لإبراز أهمية هذه المحافظة، وهذا المكان فهو من مواليد إدلب عام 1945، حصل على إجازتين جامعيتين في التاريخ والدراسات الفلسفية، ومعظم كتبه تؤكد على إبراز الهوية الحضارية للمنطقة في كل ما نشر.

*أنت شيخ من شيوخ التوثيق والتأريخ لهذه المحافظة كيف تنظر وتقيم مسيرتك البحثية والتأريخية حتى الآن؟

طبعا أنا راض بعض الشيء وغير راض. راض لأني فتحت الطريق أمام غيري. الإنسان العادي الذي عرف أن هناك تراث أثري غني في هذه المحافظة حيث أصبح يحب هذه الآثار من خلال نشاطي ويكفيني أن الكثير من الناس يواجهونني لتقديم الثناء لي من خلال التعريف بهذه الآثار، بعد ذلك برز إلى الوجود بعض الوجوه الجديدة التي تأثرت بما قدمناه في مجال التعريف بآثار المحافظة إذ بذلوا جهودهم وكافة إمكانياتهم بمتابعة هذه المسيرة أنا الرائد الأول في الكتابة قي هذا المجال حتى صار يطلق علي مؤخرا لقب مؤرخ، ولكنني لا أستحق هذا اللقب وغير راض عن نفسي لأنه لازال لدي الكثير المنجز ولم انهه بعد لتتضح الصورة الحضارية التي أبغي إبرازها من خلال عنوان سلسلتي (محافظة إدلب بوابة الحضارة السورية).

*إذا نظرنا إلى الآثار المنتشرة في المحافظة على امتدادها ماذا نقرأ من خلالها في هذه المنطقة التي تعتبر بوابة الدخول إلى أوروبة؟

نقرأ أولا أن إنسان هذه المنطقة إنسان فاعل اجتماعيا وفيلسوف حضاريا. فهذه التلال وتلك القرى الأثرية المنتشرة في أرجاء المحافظة ليست فراغا بل موجودة بفعل هذا الإنسان وفاعليته، وهذه الفاعلية ذات أساس حضاري وجودي فلسفي ربطت بين الأرض والسماء فالبناء الأثري ليس حجرا موضوعا هكذا كما نفعل اليوم ونبني بيتا، بل هو فن معماري أصيل أغناه الزخرف على واجهات الكنائس والأديرة والقلاع والبيوت في تلك الكتابات المعبرة عن فكر محلي أصيل، وقد وضحنا هذا في كتابنا الصادر بعنوان: (التاريخ الأثري للأوابد العربية الإسلامية في محافظة إدلب)، وحاليا أعد كتابا عن آثار منطقة حارم سلطنا من خلاله الضوء على فلسفة العمارة وتفسير الرموز والرسوم والزخارف الموجودة في تلك المنطقة مؤكدين على الحكمة الفلسفية، وراء هذا الفن المحلي في الشمال السوري، فكثير من الرموز تشير إلى العلاقة الوثيقة بين الإنسان وبين الله.

*هناك نظريات كثيرة حول وجود الإنسان في هذه المنطقة حسب المراحل التاريخية التي وجدت فيها تلك الآثار والتي تعبر عنه وأنت تقول: إنه إنسان محلي ماذا تقصد بذلك؟

تاريخيا هذه المنطقة تفاعلت مع كافة المؤثرات الحضارية هذا ما تعلمناه جميعا لكن (الواقع الأثري هو الوثيقة الأصح) علما أننا نقول مثلا عهد بيزنطي، هذا تقسيم تاريخي فقط ليس له علاقة بالواقع الميداني الأثري ونقصد بالعمارة المحلية أي وطنية أثرت وتأثرت ويظل لها طابع سوري أصيل بخصائصه المعمارية وفنونه الزخرفية. مثلا باحة الدار طراز معماري شرقي غير موجود لدى الغرب لأن باحة الدار مرتبطة بطبيعة جو المنطقة والسماء فوظيفتها التواصل مع السماء وإذا وجدت في بعض المناطق في أوروبا فهذا يعود إلى السوريين الذين بنوها في روما وغيرها من المدن الرومانية، مثال على ذلك أبنية " أبلتور الدمشقي" وهو معماري سوري.

ثم نأتي إلى اللغة فلغة المنطقة السائدة هي العربية وتعلمنا أن أصلها من الجزيرة العربية لكن المكتشفات الأثرية في حضارة الأنباط سابقا وفي إبلا حليا أثبتت العكس، فلهجة إبلا وقواعد التصريف لغتها قريبة من العربية بل تحاكيها مثلا: التثنية لا توجد في اللاتينية بينما توجد في اللغة الإبلائية وحرف الضاد موجود في الإبلائية أيضا. معنى ذلك أن اللغة الإبلائية أصل اللغة العربية، هذا بالإضافة إلى كثير من مفرداتنا المستعملة. كنا نقول قبل اكتشاف إبلا إنها سريانية أما اليوم فبإمكاننا أن نقول إنها إبلائية أو إبلوية وإن كنت أفضل شخصيا تسمية هذه الحضارة بحضارة (عبلا) فالترجمة كانت لقراء أجانب لهذه الحضارة فقرؤوها إبلا بدلا من "عبلا" لأنه ليس في لغتهم حرف العين وهكذا بقي الخطأ مستمرا.

وبالعودة إلى الفكرة الأساسية حول اللغة أقول: كان هناك لغة مشتركة رغم تعدد الحضارات وتبدل الأسياد كان السوري يتفاهم مع الآخرين من خلالها في اليونان أو حتى داخل روما ولذلك ولوقت طويل كانت الكتابات الأثرية تكتب باليونانية القديمة وهي الأقرب إلى الآرامية تلك اللغة الشائعة حين ذاك، والأخيرة هي الأقرب إلى العربية التي سادت فيما بعد ومثالنا: أن ترجمة الكتب اليونانية قام بها علماء سريان بسهولة فأغنوا تراثنا الحضاري لأنهم لم يكونوا مترجمين فقط بل كانوا حاملين لهذا التراث إن كان يونانيا أو رومانيا فهو تراثنا في الأصل. فالخطأ الشائع أن ثقافة الإسكندر المقدوني أثرت في الشرق لكن العكس هو الصحيح إذ تأثر هو وخلفاؤه بالثقافة الشرقية في بلاد أور وفلسطين وصقلية وقبرص ومصر.

*هل تعتبر نفسك أنك أسست لعلم جديد يعتمد على الرؤية المختلفة مع كل الروايات السابقة عن هذه المنطقة والمؤثرات التي أثرت بها؟

مشكلتي مع التاريخ أنني لم أدخل طرفا خلفيا وراء النص إذ تركت الحرية للوثيقة التاريخية الأثرية بالتحدث عن نفسها بوضوح لذلك كنت كما لقبني أحدهم: "في مقال نشر مؤخرا في صحيفة حمص بفارس الحقيقة" وهذه الروح العلمية التي أنهجها ستظهر نتائجها في وقت لاحق. نحن أحوج ما نكون لإعادة كتابة التاريخ بأيدينا الحرة وليست المسيسة إذ دفعنا ثمنا غاليا نتيجة البعد عن الحقيقة وتوظيف التاريخ لأسباب شخصية فمن يشاهد الأوابد الأثرية يظن أننا عظماء في ظل الإمبراطورية الرومانية العكس هو الصحيح فكثرة المعاصر والمنشآت الاقتصادية الأخرى دلالة واضحة على القوة الاقتصادية للمنطقة، فنحن لم نكن متخلفين بل كنا متقدمين اقتصاديا في القرية الأثرية أكثر من آبدة دينية قد تكون نحلتها مغايرة للأخرى، ومع ذلك كانوا يعملون في حياة مشتركة لبناء اقتصاد البلد هنا دلالة على التسامح الديني والفكر الحضاري المتطور حتى العهد العثماني فمنهم من هاجمه لمؤثرات معروفة.

نحن نظرنا إليه نظرة وثائقية محايدة قلبت الكثير من المفاهيم التي كانت معروفة سابقا كإقامة العدل وإحقاق الحقوق والدفاع عن الضعيف فالكثير من أبناء المنطقة قدموا شكاوى ضد أي ظالم حتى ولو كان والي حلب أليس هذا في مفهوم اليوم الدفاع عن حقوق الإنسان؟

*أنت الأب الروحي لجمعية العاديات في إدلب ومؤسسها الأول كيف بدأت هذه الجمعية وإلام انتهت؟

عشت مع العاديات منذ يفاعتي إذ إن مؤسسها جدي لأمي "محمد راغب طباخ"، وكنت أسمع عنها وأنا صغير وفي شبابي شاركت في نشاطاتها إلى أن قررت تنفيذ أمنية جدي بفتح فرع لها في إدلب وبعد معاناة تم افتتاح فرع إدلب وغايتنا التدريب على العمل المؤسساتي ومعايشة العصر في إنشاء كوادر تدير هذه الجمعية لتحقيق أهدافها في التعريف بتراث هذا الوطن وآثاره وخاصة في محافظة إدلب الأغنى بالأوابد التاريخية والسعي لحمايتها من التعدي عليها وحفظ التراث المادي وغير المادي قبل اندثاره لذلك ما يتطلب منا جميعا التأهيل والتدريب لكن بكل أسف (هجم) الكل يريد قطف الثمرة قبل نضجها مع أن النبتة تزرع وتسقى بالتضحيات وليس بقطف ثمرها. هذه الأهداف تحولت إلى حجرات ومكاتب مفروشة ولوحات فيها الاسم قبل تحقيق المحتوى. أين مسعانا بتشكيل فرقة فنون تتفوق على غيرها؟ أين مسعانا للدفاع عن الآثار وحمايتها؟.

*ما هي مشاريعك الأخيرة في البحث الأثري والتأريخي؟

أنجزت كتابا بعنوان "ولاية الفوعة" وبينت فيه أن القرية الصغيرة اليوم كانت كبيرة في الماضي، مؤكدا أن معظم قرانا هي قديمة كالفوعة أو غيرها مثل "سرمين وبنّش وقميناس... وقد خرج من سرمين الواقعة إلى الشرق من إدلب البطريرك يوحنا الثالث الذي تولى سدة كنيسة القسطنطينية عام (577)م كما أتابع البحث في كتابين هما "دراسة شاملة عن آثار منطقة حارم" لأنها تضم ثلث آثار المحافظة، وأركز فيه على فن العمارة وزخارفها والكتابات الأثرية ومضمونها الفلسفي.

أما الكتاب الثاني فهو بعنوان "مدينة إدلب ومنطقتها" بحيث أقدم تاريخ المنطقة في تسلسل الأحداث والعرض الطبغرافي لمدن وقرى إدلب كما ولجت إلى الحياة الاقتصادية عبر عرض للمؤسسات الاقتصادية في ذلك الوقت كالمعاصر والمصابن والخانات والأسواق، بالإضافة للحياة الاجتماعية في دراسة البنية السكانية وأصلها وتوزيعها والحياة الدينية من خلال المعتقدات والأوابد الأثرية "كالجوامع والزوايا والمقابر حولها" ثم تسليط الضوء على الشخصيات المنسية مثل الشاعر الشيخ "محمد خير جبيرو" من إدلب والقاضي عماد الدين الفوعي" من الفوعة مع توضيح أثر بعض القرى الداثرة في الدفاع عن المنطقة في الحروب الصليبية مثل "برج هاب" التي كانت حصنا منيعا تقع غرب إدلب بـ 7كم.