«كلّ من يملك بارودة عليه أن يحارب المحتل الفرنسي، أو أن يقدّمها للمجاهدين لمحاربته. هذا القرار يعرفه كلّ من عاصر دخول القوات الغازية لبلادنا». والكلام للمعمّر "فارس حمد اليحيى" من قرية "حزارين" الواقعة غربي "معرة النعمان" بـ/سبعة عشر/ كيلو مترً تقريباً، و"فارس اليحيى" يعتبر من الشخصيات المرموقة ليس في قريته وحسب، بل على مستوى المنطقة، لتاريخ الرجل في مقارعة المحتل من جهة، ولمقاومة ظروف الحياة والتغلب عليها بالأعمال المختلفة من جهة ثانية، فكما حدّثنا أثناء لقاء موقع eIdleb به قائلاً:

«كان عدد مداخن القرية حين دخلت القوات الفرنسية لا يتجاوز العشرة، وكان البيت يكنى بالمدخنة، لوجود ضريبة سنوية فرضها المحتل الفرنسي مقدارها /3/ل.س على كلّ مدخنة، وقد اجتمعت مع "ابراهيم هنانو"، و"مصطفى الحاج حسين" رحمهما الله في "إحسم"، وكان "إبراهيم هنانو" في /الخامسة والستين/ من العمر، ويركب حصاناً أسودا،ً وترافقه ابنته باستمرار، وكانت تحمل السلاح، وتحارب مع الثوار، أمّا المجاهد "مصطفى حاج حسين" فأتذكره جيداً، وأتذكر كيف هجم على الدبابة في المعركة التي وقعت شمال قرية "سرجة"، بعد أن قُتل كل من المجاهد "سرور" من قرية "إحسم"، والمجاهد "أبو عدلة" من قرية "مشون" بنيران تلك الدبابة، فما كان من "مصطفى حاج حسين" رحمه الله إلا أن هجم عليها، وقتل سائقها بالسيف، وفي هذه المعركة أُسر كلّ من "أحمد عبد الكريم" من قرية "كنصفرة" و"القاق" من "معرة النعمان" و"أبو العبسي الأكسح" من قرية "الهبيط"، و"حميدو الصعب" من قرية "بسامس"، وتمّ إعدام شقيقين من أولاد "علوش" على بيدر قرية "بليون".

كيف لا وقد كنت (القبضاي) المعروف على مستوى المنطقة؟

وألقي القبض على /300/ ثائر وسجنهم في "خان اسطنبول" في "حلب"، وإعدام العديد منهم، والسجن المؤبد لآخرين، ومن بين المساجين "أحمد عبد الكريم" من قرية "كنصفرة"، وكان عمره /25/سنة، و"عارف آغا" من "مرعيان" الذي كان يطعم المساجين على نفقته كلّما تمّ اعتقاله، وكذلك شاركت في موقعة "الكرسانة" في جبل "أريحا"، وقد قتلنا وقتها أكثر من /ستين/ جندياً من الجيش الفرنسي، وحين حلّ الظلام تسلل "عمر دعدوش" من قرية "مرعيان" وجلب الأسلحة التي خلّفها القتلى».

مع ولده محمد فارس اليحيى وحفيديه

ولأنّ المعمّر "فارس اليحيى" هو أكبر المعمّرين في محافظة "إدلب" كما يقول، فقد حدّثنا عن بعض ملامح الحياة التي عاشها بقوله: «أتذكّر السلطان "عبد الحميد"، وحين وقعت حرب "سفربرلك" كان عمري /26/سنة». وكما هو معروف فإنّ فترة حكم السلطان "عبد الحميد" بدأت عام /1876م/، وانتهت عام /1909م/، وحرب "سفربرلك" وقعت ما بين عامي /1914/م و/1918/م، وبحساب بسيط لعمر الرجل يتبين أن عمره /120/سنة كما قال تماماً، ليضيف بقوله: «أعرف أغلب المعمّرين في محافظة "إدلب"، وأنا أكبرهم سناً». وذكر أسماء البعض ممن أجرى موقع eIdleb لقاءات معهم، وعن زواجه قال: «تزوجت في الخمسين، وكان زواجي غريباً، حيث أتيت من المعصرة فوجدت عروسي تنتظرني في المنزل الطيني وكان مهرها يبلغ /300/ق.س اشترينا به (صرّافة) وليرات ذهب، وأساور فضّة، و(بابوج) أي حذاء، و(مركوب حلبي) أي حذاء رجالي». ثمّ تحدّث عن مواصفات الرجل الذي تحبه المرأة كما عرف ذلك بالتجربة التي عاشها بقوله: «كانت المرأة في زماننا تحب الشاب (القبضاي)، ثمّ أصبحت تحب الشاب الوسيم، ثمّ انتقلت فيما بعد لتحبّ الغني، وإذا لم توفق به ترضى بالموظف على أقل تقدير».

ودلل على ذلك بزوجته التي تركت خطيبها، لتتزوجه هو بعد العشق الذي تأجج بينهما ويتساءل "اليحيى": «كيف لا وقد كنت (القبضاي) المعروف على مستوى المنطقة؟».

مهدي، خالد أبو يحيى، محمد فارس اليحيى، ووجيه خرزوم

أمّا عن عادات تلك الأيام فقد بدأ "اليحيى" بقصّات الشعر قائلاً: «كان عمي حلاّق القرية، وكان يحلق للزبون على مدار العام (بتنكة حب) يقبضها وقت الموسم، ومن أشكال الحلاقة زمن الأتراك ما يسمى بحلاقة طارد ومطرود»، وهي شبيهة بقصة (البانكي) هذه الأيام. «وفي زمن الاحتلال الفرنسي ظهرت قصّة (أفرنكة)»، وهي قصّة كاملة للشعر بحيث تظهر جلدة الرأس، «وانتهت القًصات بالقصّة الحلبية» وهي قصة الشعر العادية.

وعن عمله فقد أمضى عمره يحرث الأرض (بفدّانه) كما قال، معتمداً على البقر تارة وعلى البغال تارة أخرى، ولأنه يقرأ القرآن، فقد ذكّرنا بأن كلّ من كان يحفظ القرآن زمن العثمانيين كان يلقّب (بالأمباشي).

ثمّ روى كيف كان يتم توصيل الرسائل بواسطة شخص في القرية، حيث يذهب سيراً على الأقدام إلى المكان المخصص، وهذا المراسل ذهب مرّة إلى مدينة "حماة" بمبلغ /4/ بيشليات، وقطع مسافة تزيد عن /80/كم، أمّا عن الطعام الذي كانوا يتناولونه فقد قال: «لم نكن نعرف الخضراوات زمن الاحتلال العثماني، حيث كان معظم طعامنا من الحبوب، أوالدبس، والتين والزبيب».

أخيراً ما يميّز اللقاء بالمعمّر "فارس حمد اليحيى" أنّه أكبر المعمّرين سناً في محافظة "إدلب"، ومع ذلك يتمتع بذاكرة قوية يستطيع من خلالها التحدّث عن أدق التفاصيل التي مرّ بها، عدا عن روحه المرحة المحبة للحياة، وكلّ من يجالسه سيحسّ بهذه الروح المتوثّبة الساخرة حتى من الهرم، ومن تلك السنوات التي رحلت من غير رجعة، وكأنّ لسان حاله يقول: يا جبل.. لكنه يظلّ صامتاً.