" أبو العلاء المعري" شاعر وفيلسوف، أديب ومؤلف عربي سوري، ترك بصمته في كتاباته الأدبية والفلسفية وأثبت حضوره بين الشعراء والفلاسفة، لقب برهين المحبسين.

الأديب " غسان ونوس" قال عنه: «كان الأعمى الشاعر الأخيرُ زمانه بصيراً بأحوال الدنيا، متمرّداً على قوانينها الأرضيّة المقيِّدة للمَلَكَات باسم السماء، مطوِّفاً في فضاءاتها بلا خوف من تبعات الأقدار التي تُمهِل وقد لا تُهمِل، كان مشرقاً ومنصفاً ومتساوقاً في منطقه المعرفي الوجداني اعتقاداً وسلوكاً وثقة بالنفس، لقد فاضت إحساسات الشاعر "المعرّي" مغتناةً بفكره، وحيويةً بسعة اطلاعه، ومتماديةً بعمقه ومَدَياتِ استشعاره التي تُضاعف الجنى، وتؤكّد الجدوى غرةً لألاء على ناصية الذِّكْر، وعلامة فارقة على جبين الزمان».

آمن بالله إيماناً فطرياً وعقلياً جعله لا يرتاب من وجود الخالق، قال: "أثبت لي خالقاً حكيماً ولست من معشر نُفاة"

مدونة وطن "eSyria" أجرت بتاريخ 9 شباط 2014، حواراً مع الشاعر "حسن إبراهيم سمعون"، وتحدث عنه بالقول: «ولد "أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان المعري التنوخي" في "معرة النعمان" سنة 363 هجري - 973 ميلادي، لأسرة ترجع بأصولها إلى قبيلة تنوخ التي ينتهي نسبها إلى قضاعة إلى يعرب بن قحطان، بدأ تلقي العلم على يد أبيه فتلقى من العلوم علوم اللسان والدين، وبدأ يقرض الشعر وهو في الحادية عشرة من العمر، سافر إلى "حلب" ومنها إلى "أنطاكية" التي احتوت مكتبة شملت نفائس الكتب، فحفظ منها ما شاء الله أن يحفظ، ثم سافر إلى "أنطاكية وطرابلس الشام" التي وجد فيها مكتبة كبيرة درس فيها ثم عاد إلى "المعرة"، فكان استعداده للعلم عظيماً وذكاؤه ملتهباً، رغب في السفر إلى "بغداد" لكن أمه كانت تمانع أول الأمر لكنه أقنعها فأذنت له، وأعد له خاله "أبو طاهر" سفينة انحدر بها إلى الفرات حتى بلغ "القادسية"، وكان ذلك أواخر 398 هجري ودخل بغداد 399 هجري، حيث تردد في مكتباتها ودور العلم فيها، لم يمنعه سفره إلى بغداد لطلب المال، وهذا ما جاء بقوله:

أحد مؤلفاته.

"أنبئكم أني على العهد سالم ووجهي لم يبتذل بسؤال

وإني تيممت العراق لغير ما تيممه غيلان عند بلال".

من مؤلفاته.

كما نفى أن يكون خروجه إليها ليستزيد من العلم مع أنه كان أمراً مألوفاً في عصره أن يرحل الرجل ليستكثر من لقاء الشيوخ، وقد صرح "أبو العلاء" ببعض رسائله أنه أتاها قاصداً "دار الكتب" فيها وكان يسميها دار"العلم"».

ويقال: «إنه لم يأت "بغداد" مغموراً بل سبقته شهرته إليها لكن أهل بغداد لم يسلموا بعبقريته قبل امتحانه الذي اجتازه بنجاح، لقد حضر "المعري" الكثير من مجالس العلماء ببغداد وشارك في دروسهم ومناظراتهم، كما حضر مجمع "عبد السلام البصري، وسابور بن أردشير"، وفيه يقول:

ضريح ابو العلاء.

"وغنت لنا في دار سابور قينة من الورق مطراب الأصائل ميهال".

وحضر دروس الشريف المرتضي والمرتضى حيث ربطته بأسرتهما علاقة حسنة، إضافة إلى المجالس الشعرية بمسجد المنصور حيث يلقي الشعراء قصائدهم، منهم من يذكر أنه فارق بغداد كارهاً لها زاهداً فيها لكن رسائله تبين أنه أحبها حباً جماً وفارقها مكرهاً، يقول:

"يا عارضاً راح تحدوه بوارقه للكرخ سلمت من غيث ونجيتا

لنا ببغداد من نـــهوى حيتـــه فإن تحملتها عــنا فحييــا

سقيا لدجـــلة والدنيا مفرقـــة حتى يعود اجتماع النجم تشتيتا"».

ويتابع الباحث "سمعون": «وبينما هو في الطريق من "بغداد" توفيت أمه التي ربطته معها علاقة مميزة فرثاها بقصيدتين وكثير من النثر، وظل يذكرها طوال عمره ولا يرى عزاء إلا في لحاقه بها حيث يؤنس أن يدفن إلى جوارها، قال:

"على أن قلبي أنس أن يقال لي إلى آل هذا القبر يدفئك الآل"».

«لقد قرر بعد عودته من "بغداد" أن يعتزل الناس وسمى نفسه "رهين المحبسين" معبراً عن ثلاثة سجون يعيشها بقوله:

"أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيث

لفقدي ناظري ولزوم بيتـــي وكون النفس في الجسم الخبيث".

ومن الأسباب التي حملته على اتخاذ قرار العزلة كان فقده أبيه وأمه وما يلقاه من أذى بسبب فقد بصره الذي جعله يجهل كثيراً من آداب الناس في عاداتهم، إضافة إلى فشله في الإقامة ببغداد حيث العلماء والفلاسفة واضطراره لزوم "المعرة" وهي خالية من العلماء، لقد قرر الانقطاع عن الدنيا ولذائذها فلم يتزوج، وكان يصوم النهار ويسرد الصيام سرداً، لا يفطر إلا العيدين ويقيم الليل ولا يأكل اللحوم والبيض ويكتفي بما يخرج من الأرض من بقل وفاكهة، يقول:

"فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالما ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح

ولا تفجعن الطير وهي غوافل بما وضعت فالظلم شر القبائح

ودع ضرب النحل الذي بكرت له كواسب من أزهار نبت صحائح".

التزم "المعري" عزلته تسعةً وأربعين عاماً إلا مرة واحدة مكرهاً بعد أن ألح عليه أهل بلدته طالبين شفاعته لدى أمير الدولة "صالح بن مرداس"».

وعن شخصية "المعري" يتابع: «رغم عزلته كان ذا صلة حسنة بالناس ، رقيق القلب، رحيماً عطوفاً على الضعفاء، وفياً لأصدقائه وأهله، امتازت شخصيته بالحياء لكنه كان سيء الظن بالناس يعتقد فيهم الشرور والسوء، ويمقت فيهم خصال الكذب والنفاق والرياء، وكان يقول: الإنسان شرير بطبعه والفساد غريزة فيه ولا يُرجى برؤه من أدوائه، قال:

"إن مازت الناس أخلاق يقاس بها فإنهم عند سوء الطبع أسواء".

وما يمكن قوله: إن فقدان بصره أثر في شخصيته ويبدو من شعره إحساسه بهذه العاهة التي أصابته، قال:

"ويا أسيرة حجليها أرى سفهاً حمل الحلي لمن أعيا عن النظر".

وقد دفعه عماه إلى تحدي الصعاب والرغبة في التكيف واكتساب العلم والمعرفة والتفوق فيهما على المبصرين، ويتبدى تحديه هذا في لعبه النرد والشطرنج، لكن هذه العاهة أورثته شعوراً عميقاً بالألم والحزن ملأ شعره بالزفرات الحارة، ما يدل على مالها من أثر شديد في نفسه».

وعن مؤلفات "المعري" يقول: «ألف مصنفات كثيرة ضاع أكثرها ولم يصلنا إلا اليسير، ويقال إن أكثر كتبه باد ولم يخرج من "المعرة"، وحرقها الصليبيون، فيما حرقوا من "المعرة" وأحصى له من الكتب خمسة وخمسين كتاباً في أربعة آلاف كراسة تشمل الشعر والنثر، ومن أشهر مؤلفاته النثرية: "رسالة الغفران ، رسالة الملائكة، وهي صغيرة ، أجزاء من الفصول، الغايات"، وطائفة من الرسائل كان يوجهها إلى أصدقائه، وقد امتاز نثره بالغرابة وكثرة الغموض واللجوء إلى السجع مثل أهل عصره، وقد طرق فيه موضوعات مختلفة كالمدح والوصف والغزل والعزاء، ففي المدح يقول:

"غير مستحسن وصال لواني بعد سبعين حجة وثماني

عللاني فإن بيض الأماني فنيت والظلام ليس بفان".

وهو يصف الأشياء المحسوسة ويزين لفظه حتى يعوض ما يحس به من نقص تجاه وصف المبصرين قال:

"رب ليل كأنه الصبح في الحسن وإن كان أسود الطيلسان

ليلتي هذه عروس من الزنـــج عليها قلائد من جمان

هرب النوم من جفوني فيــها هرب الأمن عن فؤاد الجبان".

وفي الغزل يقول:

"يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر لعل بالجزع أعواناً على السهر

وإن بخلت عن الأحياء كلهم فاسق المواطر حياً من بني مطر".

أما الرثاء فقد رثى أباه وأمه وطائفة من الناس، قال:

"غير مجدِ في ملتي واعتقادي نوح باكٍ ولا ترنم شادِ

وشبيه صوت النعي إذا قيس بصوت البشير في كل نادِ

إن حزناً في ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد".

أما الهجاء فهو لم يهج أحداً لكنه كان يتبع عيوب البشر عامة ونقائصهم ، ويظهرها في لهجة قاسية متجنباً الفحش والإقذاع، ليس غرضه الإساءة بل الرحمة والإصلاح، قال:

"يحرم فيكم الصهباء صرفاً ويشربها على عمد مساء

إذا فعل الفتى ما عنه ينهى فمن جهتين لا جهة أساء"».

ومن كتبه: "تضمين الرأي، المختصر الفتحي، عون الجُمل"، أما دواوينه فبقي منها ثلاثة دواوين: "سقط الزند، الدرعيات، اللزوميات".

وعن أثر علمه وثقافته في شعره يتابع القول: «يعد عصر "المعري" عصراً ذهبياً في نضج العلوم وانتشارها على اختلاف مشاربها، فكان علمه باللغة والنحو والأدب هو الغاية الأقوى حتى قيل: إن المعري بالمشرق وابن سيده بالمغرب، ليس لهما في زمانهما ثالث في اللغة يكثر عنده الجناس والتورية والطباق والاستعارة».

في الاستعارة:

"ركبنا على الأعمار والدهر لجة فما صبرت للموج تل السفائن".

في الكناية:

"ولو وطئت في سيرها جفن نائم بأجفانها لم ينتبه من منامه".

وفي الجناس:

"وفوائد الأسفار في الدنيا تفوق فوائد الأسفار".

وفي الطباق:

"غير مجدٍ في ملتي واعتقادي نوح باكٍ ولا ترنم شادِ".

وفي التورية:

"وحرف نون تحت راء ولم يكن بدال يؤم الرسم غيره النقط".

كما يعتبر "المعري" أول من اهتم بالأساطير وفلسفها، وقد أشار إلى معارفه التاريخية بقوله:

"ما مر في هذه الدنيا بنور زمن إلا وعندي من أخبارهم طرف".

ويمكن القول: «ظهرفي شعره المبالغة والتكلف والمحاكاة، فقد استعمل الإصلاحات والإشارة العلمية، وتميز الشعر الذي نظمه في كهولته بنضج الفكر وبإتقان المعاني واللجوء إلى القوافي الصعبة».

أما عن فلسفة "المعري" فيتابع: «تأثر "المعري" بمختلف الفلسفات التي سادت في عصره وأضاف إليه تجربته الشخصية وآراءه التي استقاها واختارها لنفسه وكان يردد خلودها وبقاءها، قال:

"نرد إلى الأصول وكل حي له في الأربع القدم انتساب".

ويعبر عن فناء المادة الكونية وحدوثها:

"ليس اعتقادي خلود النجوم ولا مذهبي قدم العالم"».

وعن رأيه بالأديان قال: «آمن بالله إيماناً فطرياً وعقلياً جعله لا يرتاب من وجود الخالق، قال:

"أثبت لي خالقاً حكيماً ولست من معشر نُفاة"».

أما عن رأيه في الدنيا، فقال: «كانت أكثر آرائه صراحة تلك التي قالها في الدنيا، فقد كره الزواج ولم يتزوج، وتمنى الموت لكل وليد لأنه سيقاسي الشرور، قال:

"فليت وليداً مات سعة وضعه ولم يرتضع من أمه النفساء"».

ويتابع: «لم يعمر "أبو العلاء" طويلاً فقد اعتل وأصابته الشيخوخة بالوهن ووصفها بقوله:

"الآن علت السن، وضعف الجسم، وتقارب الخطو، وساء الخلق".

لكنها وإن أصابت جسمه فما أصابت عقله وصفاءه وقريحته، فما نسي شيئاً مما حصل، وعندما مرض ووصف له الشراب امتنع عنه، قال:

"تعللني لتسقيني فذرني لعلي أسترح وتستريح".

وقبل وفاته التي كانت 973 هجري - 1057 ميلادي، أوصى أن يكتب على قبره:

"هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد".

ووقف على قبره أربعة وثمانون شاعراً يرثونه، ومن أشهر ما قيل فيه رثاء تلميذه "أبي الحسن علي بن همام":

"إن كنت لم ترق الدماء زهادة فقد أرقت اليوم من جفني دماً"».