«الماء حياة ولا بد من وجوده لكي تستمر الحياة، ونظرا لعدم توافر الماء الجاري في بعض القرى والأماكن ونتيجة لتطوير الإنسان للزراعة واستخدام الماء في سقايتها كان لا بد من أيجاد سبل للماء تفي بالغرض الأمر الذي دفع الإنسان للتنقيب على الماء وحفر الآبار للوصول إليه وكان من المفترض أن يختص شخص ما ويتفرغ لهذا العمل».

هكذا بدأ السيد "يوسف القاسم" حديثه معنا أثناء زيارتنا له في منزله الذي يقع في أجمل وأعلى بقعة من جبل الأربعين وأضاف قائلاً: «منذ أكثر من ثلاثين عام لم تكن قريتي والأراضي التي تحيط فيها سوى صحراء حجرية لا تصلح لزراعة أي محصول سوى القمح والشعير في أجزاء محدودة منها، وكان اعتمادنا الأساسي في الزراعة قائم على زراعة الحبوب ويأتي القمح والشعير في مقدمتها، ولكون الزراعة بعلية فلم نكن نتطلع لوجود مصادر كثيرة للماء، باستثناء ماء الشرب وبعد أن توجه الناس لزراعة الشجر والخضراوات بعد عمليات الاستصلاح التي شملت العديد من أراضي قريتنا والقرى المجاورة، كان لا بد من توفير مصادر مائية دائمة لري هذه المزروعات، فكنت من أول الذين أقدموا على العمل في حفر الآبار العربية، وأصبحت أتقاضى أجراً لا بأس به مقابل حفر كل بئر، ولكني كنت أجد مشقة كبيرة في ذلك لأن الحفر يعتمد على أدوات يدوية وتقليدية بسيطة».

في الفترة الأخيرة بعد أن انقطعت الصلات بين الناس وبعد أن شب أبنائي وكبروا واستقل كل واحد منهم في منزله تركت قريتي "بزابور"، واتجهت لأسكن في بستاني الذي يقع إلى الشمال من القرية في قمة "جبل الأربعين"، وأنا الآن أقطن مع زوجتي وولدي الصغير، يقصدني الكثير من الأقارب والأصدقاء ليستمعوا إلى غنائي وأبيات "العتابا" التي أقولها إلى الآن

ويضيف السيد يوسف: «اعتمدنا في حفر الآبار العربية على الأدوات البسيطة، كـ"البيك والمعول والمهدة والقاروص" وهو قضيب ثخين من الحديد الصلب وغيرها، وكنا نستمر في حفر البئر الواحد أكثر من شهر من العمل المتواصل، ونستخدم "المنجنيق" اليدوي في عملية الصعود والنزول إلى البئر، وهو عبارة عن اسطوانة قطرها نصف متر ولها مقبضين معقوفين من كلا الاتجاهين، يلف عليها حبل بطول البئر، ويمسك بها عاملان ويقومان بتنزيل "الزنبيل" وهو وعاء من البلاستيك إلى أسفل البئر، فيقوم العاملان الموجودان في الأسفل بإملاء هذا الوعاء بالرمل الذي قاما بحفره، لقد كان العمل يدويا بكل أجزائه وبقي كذلك حتى فترة متأخرة، حيث وجدت الآلات في الفترة الأخيرة مثل "الكمبريسا" التي تقوم بنفخ الهواء ليصل إلى جهاز آلة تسمى "الرجاج" لأنه يعتمد على الرج والدوران نتيجة ضغط الهواء، لقد سهلت هذه الآلات العمل بشكل كبير، استمريت به سنوات طويلة حتى أصبحت في سن لا تسمح لي بذلك، لم يكن الحفر يتم بشكل عشوائي، بل اعتمدنا طريقة للبحث عن الماء، عن طريق عود يأخذ شكل الشعب يقطع من شجرة خضراء يستطيع بعض الأشخاص من خلاله تحديد أماكن تجمع المياه في باطن الأرض، ولا تزال هذه الطريقة في البحث عن الماء متبعة حتى الآن ويعتقد الكثير من أبناء محافظتنا بصحتها ويستعينون بها في حال دعتهم الضرورة لحفر بئر».

السيد يوسف القاسم مع حفيدته سلام

وعن طبيعة الحياة في قريته "بزابور" يقول السيد يوسف: «كانت الحياة في قريتي بسيطة كل البساطة، ولم يكن يحسب للمادة أي حساب، فالناس كلهم اعتادوا هذه الحياة الوديعة البسيطة، واكتفوا بالقليل الذي تجوده عليهم لم يكن يحسب حساب لمنزل يتألف من طوابق ثلاثة، ولا لدار تتألف من غرف خمسة، لم يكن مطلوباً منا العمل بالليل والنهار، ولا في الصيف والشتاء، فما أن يحصل المرء على قليل من "الشعير" و"القمح" وقليل من "الزيت" و"الكاز" و"التين المجفف والعنب" حتى يخلو لسهره وسمره، ولعبه طوال فصل الشتاء، حيث يجتمع كل أهل القرية في بيت احد الرجال حول "الدفيّة" وهي موقدة للنار تجعل في أحد جدران المنزل، ويبدأ احد الرجال من الذين حفظوا القصة بقص ما حفظه عن والده، والناس يسمعون إليه بكل اهتمام ويستجيبون للحدث ويتفاعلون معه وكأنه يقع أمامهم، لم يكن للشباب والرجال في القرية عمل سوى الزراعة وتربية الحيوان».

وعن "العتابا" و"الميجنا" والغناء يقول السيد "يوسف": « لم يثنني أي شيء عن "العتابا" والغناء، كنت فنان القرية الوحيد وفارس غنائها الذي لا يشق له غبار، وأكثر ما أجدت في "العتابا" حيث كنت أحفظ الكثير من أبيات "العتابا"، وعملتُ على تأليف أبيات كثيرة بمفردي فهي هوايتي المفضلة ومن أجمل ما كان يحصل في ذلك الوقت المحاورات في الأعراس والمناسبات، حيث ينقسم الناس إلى حلفين وكل حلف يحاول انتقاء الأبيات اللاذعة السليطة، ويلقيها على خصمه حتى يكون هو المنتصر في النهاية، ونستغل أيام الأعراس لأنه يجتمع اكبر عدد مكن من الناس ومن قرى مختلفة، ويستمر العرس على هذا المنوال أيام سبعة، كما قمت بتدوين الكثير من الأحداث التي وقعت عن طريق أبيات العتابا التي أنظمها، وإضافة إلى ذلك فإني أحفظ آلاف الفوازير، وأتحدى بها كل الأشخاص الذين ألقاهم ولا سيما المثقفين من أبناء قريتي وأبناء القرى المجاورة والذين يتعجبون مني حيث إن فوازيري لا تقف عند حد معين فهي تتعلق في كل مجالات الحياة، "الطب" و"العلوم" و"التاريخ" و"الفلك" وغيرها، وأُحزر كل في اختصاصه، ويقف الجميع عاجزين عن حل أي لغز من الغازي».

السيد يوسف القاسم فس بستانه

ويضيف: «في الفترة الأخيرة بعد أن انقطعت الصلات بين الناس وبعد أن شب أبنائي وكبروا واستقل كل واحد منهم في منزله تركت قريتي "بزابور"، واتجهت لأسكن في بستاني الذي يقع إلى الشمال من القرية في قمة "جبل الأربعين"، وأنا الآن أقطن مع زوجتي وولدي الصغير، يقصدني الكثير من الأقارب والأصدقاء ليستمعوا إلى غنائي وأبيات "العتابا" التي أقولها إلى الآن».

ويقول السيد "أسعد العاصي" أحد أصدقاء السيد "يوسف": «لا يزال السيد "يوسف" من الأشخاص المميزين في "بزابور"، فهو اجتماعي بشكل كبير، وأنا دائماً أبقى على تواصل معه، وكثيراً من السهرات التي أُمضيها أنا وعد من الأصدقاء عنده، حيث يغني لنا ويطربنا بعتاباته الرائعة، التي لا يزال يحفظ منها الكثير، إضافة إلى أنه دون الكثير من أحداث القرية التي مرت به في فترات سابقة بأبيات "العتابا"، ويحفظ الكثير من الألغاز التي دائماً ما يقف الجميع عاجزاً عن الإجابة عنها، ولديه ثقافة منوعة وحب اطلاع واضح، على الرغم من تقدمه بالسن».

السيد أسعد

يشار إلى أن السيد "يوسف القاسم" من مواليد قرية "بزابور" عام 1932 وله تسعة أولاد أربعة ذكور وخمس إناث وله أكثر من 75 حفيدا وابن حفيد.