اشتهر "جبرائيل سعادة" منذ طفولته عندما وضعت صورته على غلاف علبة التبغ وهو يدخن الغليون وقد كتب عليها "الولد المحظوظ"، وعندما سئل من هم أصدقاؤك الذين لا تتخلى عنهم أجاب: "النرجيلة، والموسيقا، والآثار، والتاريخ".

ارتباطه بالتاريخ والآثار جاء عن طريق المصادفة عندما كان يبحث في مكتبة فرنسية عن كتاب بعينه، وقد قال عن هذه المصادفة: «أثناء وجودي في مكتبة "الاستشراق" في باريس عام /1946/ للبحث عن الزاوية الموسيقية عثرت على مجلد من المقالات كان عنوانه: "حفريات رأس شمرة"، وهو طبعة منفردة لتقارير "كلود شيفر" عن "رأس شمرة" التي تبعد عن "اللاذقية" /3/ كم، فاشتريت التقارير وبدأت مرحلة البحث عن الآثار».

عشقت الموسيقا قبل القراءة كما "الأروادي" يتعلم السباحة قبل الكلام

وأضاف: « علم الآثار لن يكتمل في "سورية" حتى يسيطر الباحثون السوريون على هذا العلم، والأجنبي يهتم بتراثنا على أنه مادة دراسية فقط».

الشاب الذي ولد ضمن عائلة تعمل بالتجارة والزارعة لم يتأثر في جوه العائلي وظل ولعه بالموسيقا والآثار هما الأساس على حساب التجارة والحقوق التي نال شهادة جامعية فيهما، فقد نذر حياته لهما ولم يتزوج، لكنه نادم على ذلك حسب قوله: «نادم على شيئين أولهما الوقت فلم أتفرغ كما يجب للعلم والمعرفة، وثانيهما اعتباراً من عام /1955/ ندمت على أنني لم أتزوج».

على صعيد الموسيقا كان الراحل ظاهرةً في عصره وقد قال: «عشقت الموسيقا قبل القراءة كما "الأروادي" يتعلم السباحة قبل الكلام».

لوحة للراحل "سعادة" بريشة الفنان "عبد الحكيم الحسيني"

وهو يعني ما قاله تماماً حيث إنه في طفولته كان يميز الأسطوانات الموسيقية من خلال إشارات وضعها عليها في وقت لم يكن يعرف فيه لا القراءة ولا الكتابة.

في عام /1945/ شارك "جبرائيل سعادة" في تأسيس "النادي الموسيقي" في "اللاذقية"، وأصبح نائباً للرئيس ومن ثم رئيساً للنادي في عام /1961/.

لقد تحول "سعادة" خلال سنوات قليلة إلى واحد من أشهر وأكبر العارفين بالموسيقا في المنطقة، وقام بالعمل على نشر الثقافة الموسيقية في "اللاذقية" وجمع الفنانين في منزله من خلال إقامة أمسيات موسيقية دورية للموسيقا العربية والأجنبية، وكان يلقي فيها محاضرات عن الموسيقا العربية والكلاسيكية، وفيما بعد عمل على تلحين بعض القصائد كان أشهرها "أمواج اللاذقية" ومن بعدها "يامرحباً بالقمر" للمؤلف "سعيد عقل" إضافة إلى "الطقطوقة" الشهيرة التي كتبها بالعامية "أنت جنبي".

وفي هذا الخصوص قال الفنان "خليل صفتلي" في حديثه لمدونة وطن "eSyria" عن "سعادة": «هو صاحب الفضل الأكبر على العديد من أصحاب المواهب الذين بصموا على الساحة الفنية في عصرنا وفي العصر الحالي.

لقد كان يجمعنا في منزله ويعلمنا ويدربنا ولا يبخل علينا في تقديم المعلومة، وقد كانت مكتبته مفتوحة لنا كذلك صدره الرحب، جهوده لا تنسى وأفضاله على الموسيقا "اللاذقانية" ستبقى إلى أجيال طويلة لاحقة».

أهم إنجازاته كانت الثانوية الوطنية التي فسحت المجال أمام مواطني "اللاذقية" لينهلوا العلم منها، حيث قاد رفاقه إلى هدم الكنيسة وبناء المدرسة مكانها، وكان يعمل بيديه وينقل الحجارة ويساهم في بنائها حتى نهضت المدرسة، وتسلم مهمة رئيس عمدتها منذ عام /1947/ حتى /1956/، وقد قال في افتتاح المدرسة: «سنعمل في البداية على تنظيف عقول التلاميذ من كل ما غرسته المدارس الأجنبية فيها خلال خمسة وعشرين عاماً».

كتب "جبرائيل" الأدب منذ الطفولة باللغتين العربية والفرنسية التي يتحدثها بطلاقة، وقد كان الأدب هاجس حبه، وهو يحب من الأدباء :"حنا مينة وكولييت خوري وأحمد الجندي" الذي يختلف معه موسيقياً لكنه يرتبط معه بالأدب و"السمنة".

وعن الأسماء الأدبية الأخرى التي يحبها قال مجيباً عن سؤال للصحفي "سجيع قرقماز": «هم على التوالي "أبو الطيب المتنبي" و"ميخائيل نعيمة" عربياً، وعالمياً "فرانسوا مورياك، ومارسيل بروست"».

و"سعادة" حسب "فؤاد اليازجي": «أديب إذا كتب في التاريخ، وأديب إذا حاضر بالآثار، وأديب إذا تحدث بالموسيقا، إنه أديب بأسلوبه وتفكيره».

وقد وصفه "أندريه بارو" عالم الآثار الشهير ومدير الآثار في فرنسا سابقاً خلال تقديمه له ليلقي محاضرة في "متحف اللوفر" بباريس عام /1970/، فقال: «"جبرائيل سعادة"، هذا الرجل الذي أمامكم هو عالم آثار، لكن عالم الآثار هذا شاعر لأنه يعشق الوطن».

وقد كتب "سعادة" للمسرح أيضاً /4/ مسرحيات، اثنتان منها عن التاريخ، وقد استخدم فيهما لغة فصيحة وهما: "عند غروب الشمس، العاصي لن ينسى"، واثنتان عن الفلكلور، واستخدم فيهما لغة "اللاذقية" الدارجة آنذاك وهما: "في اللاذقية حوالي 1905، وعلى صخرة البطرني".

كان الباحث الراحل صاحب مكتبة ضخمة جداً لطالما فتحت أبوابها لزوار "اللاذقية" والباحثين عن العلم والمعرفة بأنواعها المختلفة ووصل عدد الكتب فيها إلى /15000/ كتاب، ولم تقتصر المكتبة على الكتب بل ضمت أكثر من /8000/ شريط مسجل عن الموسيقا العربية، إلى جانب المكتبة المصورة التي تضم /10000/ صورة و/9000/ شريحة مصورة عن (الآثار، التاريخ، الشخصيات، الوثائق.. إلخ)، يضاف إلى موجودات المكتبة أيضاً أكثر من /90/ حديثاً إذاعياً لـ"سعادة" و/105/ أحاديث عن السياحة، وأحاديث عن "الموسيقا العربية" و/53/ حديثاً إذاعياً بالفرنسية عن الأدب السوري، و/44/ حديثاً عن المواقع الأثرية والسياحية في "سورية".

"سعادة" الذي عمل في الأدب والموسيقا والآثار قال عن رأيه في ظاهرة تعدد المواهب لديه: «الذين يريدون مدحي يقولون إن هذا التنوع هو غنى في شخصيتي بينما أعتبر ذلك شخصياً وبكل صراحة التبعثر في الشخصية، فحياتي تأرجحت بين الأدب والعلم، التاريخ والآثار، والموسيقا، ومشكلتي الكبرى هي هذا التأرجح بين الأجناس الثلاثة، وأقول أيضاً بكل صراحة وتواضع أكيد: إنني كنت أديباً فاشلاً وموسيقياً فاشلاً وعالم آثار ومؤرخ كان يستطيع أن يقدم أكثر بكثير مما قدم».

هذا التنوع في المواهب جعل منه دائرة معارف حسب ما قال لمدونة وطن الباحث والمؤلف "زياد عجان": «يعتبر "جبرائيل" دائرة معارف بكل ما تحمله هذه الصفة من معنى، لقد عني بالأدب باللغتين العربية والفرنسية، واهتم بالآثار بمجمل تفاصيلها وعايش الموسيقا عازفاً ومؤلفاً وثقافة موسيقية محلية وعالمية، وأستطيع القول إنه ظاهرة ثقافية اجتماعية قل مثيلها.

لقد كان له أسلوبه الخاص في العزف على آلة "البيانو" التي وظفها لخدمة الموسيقا العربية، وتعتبر مقطوعته "أمواج اللاذقية" من أجمل المقطوعات، كما قدم للأغنية الشعبية أغنية "حبيبي إنت جنبي" التي دخلت التراث "اللاذقاني"، إلى جانب الإرث الذي خلفه بالأناشيد: "نشيد أوغاريت، الجيش العربي السوري، اللاذقية .. إلخ". وقد أسس صالوناً موسيقياً كان يجمع المهتمين بالموسيقا والغناء، قدم فيه المحاضرات والندوات عن الموسيقا الكلاسيكية والعربية».

لقد نجح ابن "اللاذقية" في لفت أنظار العالم نحوه حتى إنه دفع الحكومة الفرنسية إلى منحه وسام "جوقة الشرف" عرفاناً منها بالنشاط الثقافي الواسع له، وقد قال السفير الفرنسي "آلان غرونييه" في حفل تقليد الوسام: «إنه يهب الناس مثله مثل الماء ما يروي عطشهم للعلم والمعرفة، وكنت كلما ذهبت إلى منزله في "اللاذقية" أندهش بما أراه عنده، هذا يأتي ليأخذ كتاباً يطالعه وهذا ليسمع قطعة موسيقية ومن يسأله عن تاريخ وآثار المدينة، فشعرت بأن منزله عبارة عن أغوار (الساحة الرئيسية التي تعقد فيها الاجتماعات في المدينة الإغريقية)».

جدير بالذكر أن "سعادة" من مواليد /1922/، درس في مدرسة "الكرمليت"، نال شهادة الحقوق /1944/، نال أول جائزة في حياته في مجال الأدب /1938/، أسس نادي "الشباب" /1941/، ترأس النادي الموسيقي /1961/، أسس رابطة "أصدقاء أوغاريت" /1950/، أسس نادي "اللاذقية" الرياضي /1955/، ترأس نادي "المعاهد الرياضية" /1961/، ترأس جمعية "العاديات" /1977/، ترأس اتحاد "الكتاب العرب" في "اللاذقية" /1981/، كما أنه حاصل على الوسام "اليوناني".

المراجع: كتاب "مع جبرائيل سعادة، دراسة في حياته وأعماله" للكاتب الصحفي "سجيع قرقماز".