تعتبر ملاحم وأساطير أوغاريت نموذجاً مكتملاً للأسطورة السورية، وهي مجموعة من القصائد التي تحكي عن الحياة اليومية، وعن الآلهة ودورها في تنظيم الكون، لذلك نرى أن بعض الآلهة، وخاصة ً "البعل" يلعب الدور الرئيسي في معظم هذه الملاحم، ما يدل على أهميته حين تمت كتابة ملاحم وأساطير أوغاريت، فهو إله الخصب، والمطر والصاعقة وكل ما يتعلق بالزراعة التي كانت حينها العصب الأساسي للاقتصاد.

وإذا بدأنا من الحاضر فسنجد أن البعل موجود في أدبياتنا اليومية، فتوصف الأرض غير المروية بأنها أرض بعل وهو المسؤول عن سقايتها وهذا وصف واحد لهذا الإله المحارب الذي يحمل لقب العالي والقدير والمحارب الجبار ونجد أن مسكنه كان في أعالي القمم وما زال الجبل الأقرع أو جبل صافون الذي يقع شمال أوغاريت هو أشهر مساكنه الكثيرة الممتدة على طول الساحل السوري.

أمطار، جفاف، خصب، قحط، أما بالنسبة للصراع الطويل بين البعل والموت فينتهي لمصلحة الموت دائماً، وهذه هي طبيعة الحياة، لكن بعد الموت هناك البعث

موقع "eSyria" التقى بتاريخ "21/12/2010" الأستاذ "سجيع قرقماز" الباحث المتخصص في دراسة تاريخ مملكة أوغاريت، للبحث في تصورات المثقفين حول الإله بعل ووجوده في ثقافتهم وإبداعاتهم: «ملاحم وأساطير أوغاريت لم تختلف عن الملاحم السورية في إطارها العام، بل تزيد عليها في تأثرها أحياناً بالأدب والفن والدين المصري لما كانت عليه العلاقات الحسنة في تلك الفترة، وخاصة فترة تدوين هذه الملاحم والأساطير في عهد الملك "نقماد" الثاني "1370ـ1340" ق.م.

لوحة للفنان محمد بدر حمدان تمثل تصوراته للاله بعل

ووجدت ملاحم وأساطير أوغاريت محفورة على عشرين رقماً فخارياً، وهي تشكل ست قصائد مستقلة، منها أربع ملاحم تتحدث عن الآلهة، وأسطورتان يلعب فيهما البشر دوراً رئيسياً، دونت هذه القصائد عن رواية الكاهن الأكبر في أوغاريت "أتينبرلانو" وبخط الكاتب "إيلي ميلكو"، الملاحم هي دورة البعل، مولد الآلهة، مولد الفجر والغروب، زواج القمر أنشودة "ننكال"، الرفائيم، أما الأسطورتان فهما "أقهت ابن دانييل" و"كارت الأوغاريتي"».

وفيما يتعلق بـ"دورة البعل" يقول "قرقماز": «مكونة سبع لوحات، ليس هناك إجماع على ترتيبها، حيث يختلف بعض الدارسين في ذلك، وهي تتحدث عن موت البعل، وبعثه من جديد، من خلال صراعه مع الإله موت».

الباحث والاعلامي سجيع قرقماز

ويذكر "قرقماز" ما تجسده القصيدة لدورة الحياة في الطبيعة، أي لتوالي الفصول، وما يرافق ذلك من تحولات: «أمطار، جفاف، خصب، قحط، أما بالنسبة للصراع الطويل بين البعل والموت فينتهي لمصلحة الموت دائماً، وهذه هي طبيعة الحياة، لكن بعد الموت هناك البعث».

من إحدى قصائد البعل، والتي أعاد صياغتها "سجيع قرقماز"، ولحنها الموسيقار "زياد عجان" تبعاً للنوتة الموسيقية الأوغاريتية، نقرأ: «أسكب زيتاً، العيون، الأرض والسماء، الغلال أشجار الأرض، فلتعط أيها النبع الماء للزرع، أنزل المطر على الأرض يا بعل، وأنزل المطر على الحقل أيها العلي، الأرض تحب مطر البعل، ويحب الحقل مطر العلي، رحمةً للحنطة في الحقول، دواءً على التلال، وعطراً على الجبال».

الاستاذ المخرج لؤي شانا

إذا تتلخص الأساطير في أنها تعد من وجهة نظر المجتمع المنتشرة فيه معارف عن العمليات العميقة التي تحدث في الطبيعة، ولا تدركها المراقبة السطحية، والمعرفة كما يراها ناس العصر الذي نحن بصدده ليست نتيجة لأعمال البحث بحد ذاتها، بل نتيجة معرفة مقدسة، وسر سحري، أما الأحداث الواردة فيها فقد كانت بالنسبة لرواتها ومستمعيهم واقعاً حقيقياً، وفهمت بالمعنى اليومي المعاش، وقد بدا عالم الآلهة عالماً أرضياً مرسوماً في وسط آخر، أما الآلهة فتشبه الناس على حد مدهش، فآلهة أوغاريت تسكن العالم الذي يسكنه الإنسان نفسه، ولا يفصل العالمين أي فاصل كان.

يرى الكاتب المعروف "أنيس فريحة" أن: «ملحمة البعل ليست مجرد صراع بين الآلهة وحسب، وإنما هي إلى جانب هذا تمثيلية فصلية تفسر لنا بطريقة شعرية رتابة الطبيعة في تعاقب فصولها، وفي تعاقب دورة الحياة والموت، صفات "البعل" أنه عندما يتكلم تزلزل الأرض زلزالها والجبال ترتجف، وإذا احتجب انحبس المطر، وجفت السواقي، ويبس العشب، وذبل الزهر، واختفى الحب، وانقطع التناسل والنسل، لكن عندما ينزل "بعل" إلى جوف "موت" سينزل "البعل" على جوفه من فمه بعد أن ينضج الزيتون، ومحصول الأرض وثمر الشجر، أما هلاك "موت" فيبعث الحياة على الأرض، حيث تروي "عناة" أن السماء تمطر زيتاً والأنهار تسير عسلاً».

أما "جون غراي" الباحث في وثائق أوغاريت الاثرية يقول في هذا الموضوع: «يعتقد أن الملاحم التي كتبت عن "البعل" تتناسب مع الانتقال من فصل زراعي إلى آخر، وفي غضون ذلك يعتقد أن الأسطر المتعلقة "بالبعل" و"يم" تتناسب مع الاحتفال السنوي بعيد رأس السنة الزراعية في الخريف، وفي سياق الملحمة، وبنزول "البعل" إلى العالم السفلي لمواجهة "موت" تبدأ دورة سنوية جديدة، وبمقتل بعل يحل القحط، لكن "عناة" لا تسكت على ذلك، بل تقتل "موت"، تطعنه بالخنجر وتقتله تذروه للرياح».

يضيف "غراي": «"البعل" أي الخصب، يدخل العالم السفلي وينتهي مرحلياً، لكن تقطيع "موت" وطحنه بالرحى، وذر بقاياه فوق أرجاء الأرض، هو زرع جديد بانتظار ربيع قادم، سيحيا "البعل" من خلاله من جديد، ولو لاحظنا فعل "عناة"، الطحن بالرحى، الذر فوق أرجاء الأرض، فهي أفعال تتعلق بالزراعة"، وإن أهم ما يميز البعل أنه نتاج ثقافة زراعية سورية، ولم يتم استقدامه من ثقافات أخرى، حيث استمر البعل في أدبياتنا بأسماء كثيرة منها "أدونيس" أي السيد و"تموز" و"مارجورجيوس" أي قديس الزراعة وما إلى ذلك، وكانت عشتار أو عشتروت أو عشيرة حبيبته الدائمة، ومما يدل على عمقه في ثقافتنا المتداولة الآن وبعد آلاف السنين هو أن الزوج في الأسرة يحمل لقب بعل».

مسرحياً يتحدث المخرج المسرحي "لؤي شانا" عن تجربته المسرحية في تجسيد البعل وكيفية تعمقه في دراسة الأسطورة والبحث فيها: «قبل أن ابدأ بعملي المسرحي المعروف والذي جسدت فيه بعل وأسطورته، كان من الضروري أن ابحث في تاريخ أوغاريت والميثولوجيا الأوغاريتية سواء من خلال قراءتي لبعض البحوث المتعلقة بذلك، أو من خلال حواري مع بعض الأصدقاء المهتمين بهذا الشأن.

وقد أحسست أنني قريب من أوغاريت أكثر من أي وقت مضى، لا بل أحسست بالانتماء إليها وأنه من واجبي كابن لهذه الحضارة العظيمة أن ابرز مفاتنها وعظمتها من خلال أعمالي المسرحية، ولعل تأثري الأكبر كان بأسطورة البعل وهي الأسطورة الأخيرة التي قمت بإخراجها، لم اشعر بأن الإله بعل بعيد عني وعن المجتمع الذي ولدت فيه فكأن البعل جزء من ثقافتي منذ كنت طفلاً صغيراً حين كنت أسمع جدي وجدتي يستحسنون دائماً كل ما تنتجه الأرض دون ري فيصفونه بأنه البعل، ولعل ارتباط هذا المفهوم برمز ديني كان له تأثير كبير في ثقافتنا أيضاً وهو الخضر الذي يتطابق بصفاته مع صفات البعل فلا شك أن كل هذه الأمور شكلت دافعاً قوياً عندي لأتبنى هذا المشروع الفني».

موسيقياً يتحدث الأستاذ الباحث في الموسيقا والمقطوعات المكتشفة في أوغاريت "زياد عجان": «كان الناس في أوغاريت يعتقدون أن الموسيقا يمكنها أن تقرب بين الإنسان المحدود المؤقت وبين الإله اللا محدود الدائم، كما أنها كانت تعتبر صلة الوصل بين الإنسان الفرد وبين الإله الذي يمثل أمته ومجتمعه ومثلهم الأعلى، لذا كان يطلق على الآلات الموسيقية بعض الأوصاف الخاصة، فالقيثارة كانت تسمى "تقرير المصير" والناي تدعى "قصبة الحياة" وصوت الطبل "الصوت الحي" وكان لها مهام أخرى فصوت القيثارة يقسم الحظوظ والأقدار بين الناس، وصوت البوق ينبه الإله من نومه للاهتمام بشؤون الناس، وطلبات المتعبدين وصلواتهم كانت ترتفع مع صوت الموسيقا إلى مسامع الإله "بعل" في السموات.

وتعتبر الملحمة الشعرية التي تمثل الصراع بين "بعل" و"موت" وانتصار البعل الذي يمثل الحياة، هي بداية نشأة الدراما المسرحية والغنائية وكان هذا قبل قرون عديدة من مولد الدراما اليونانية، وفي معابد أوغاريت وأهمها معبد "بعل" نشأت جوقات الإنشاد لكي يرتفع صوت الترنيم العالي إلى الأعالي، وكانت تشارك هذه الجوقة مجموعة من الآلات الموسيقية كالقيثارة مع عدد من الأعواد والمزامير والطبول والصنوج، وإضافة إلى أنشودة الابتهال الواردة في الرقيم H\6 فإننا ومن خلال النصوص الأدبية الأوغاريتية نلحظ :(غني إكراما لبعل، وراح يرتجل ويشدوا الصنجان في يدي البطل ذو الصوت الجميل يشدو، إكراما لبعل الساكن في أعلى الجبل)».

الفنان التشكيلي "محمد بدر حمدان" الذي سبق له أن جسد البعل في أعماله الفنية والتشكيلية، تحدث لموقعنا عن رؤيته الفنية للأسطورة بعل، فقال: «يظهر لنا النحت قطعة فنية مشغولة بدقه وتقنية لا تعتمد على التفاصيل لكنها قدمت شكلاً واقعياً للإنسان وهذا ما كان يميز الفن الأوغاريتي أي إنه لا يعتمد على المبالغة في تكوين العناصر ولكن رغم كل هذا جاء المشهد البصري مفتوحاً على دلالات العظمة للشخصية المراد إظهارها وكان التكوين مقنعاً بأن شخصية الإله تحمل سمات خارقة».