لم يعد "المقهى" أو "الكافيه" بالتعبير المعاصر مجرد مكان لقضاء الوقت والتفاعل مع الناس، فقد تغيرت الوظيفة التقليدية للمكان إلى فسحة مختلفة كلياً عن دورها السابق، ويتضح ذلك جلياً في مقاهي "اللاذقية".

يعود انتشار المقاهي في المدن إلى نهاية العهد المملوكي في الشرق العربي وبداية عهد الاحتلال العثماني للبلاد العربية، فقد ذكرت مجلة "آخر ساعة" المصرية أن أول مقهى في "القاهرة" بُدئ في بنائه منتصف القرن الخامس عشر تقريباً، ويذكر الدكتور "قتيبة الشهابي" في كتابه "معجم دمشق التاريخي"، أن أول قهوة في "دمشق" ذكرت في الحوليات العثمانية هي القهوة التي أنشاها والي دمشق "سنان باشا" وسميت باسمه، كما سميت "القهوة الكبرى"، وقد بنيت خارج باب "الجابية" عام 1587م، وقد دَرست"، أما في "اللاذقية" فلا يوجد توثيق دقيق لتاريخ أول مقهى فيها، وإن كان هناك من تحدث عن وجود عدد من المقاهي في حي "الصليبة" منتصف القرن التاسع عشر (هاشم عثمان ـ تاريخ اللاذقية).

عما يميز هذه المقاهي من غيرها، هل هي قيام هذا المكان بدوره التقليدي إضافة إلى الثقافي؟ أم هو الاستثمار الثقافي الحقيقي مُطعَّماً بخدمات أخرى، تماشياً مع القوانين الناظمة لعمل المراكز والتجمعات الثقافية، تلك التي تمارس تضييقاً خانقاً على كلّ ما هو غير رسمي؟

في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، أضافت المقاهي إلى دورها المعتاد دوراً، بدا أنه قادم من حاجتها إلى تدعيم دورها الاجتماعي والاقتصادي بكسب مزيد من الزوار من شرائح اجتماعية مختلفة، هي الأكثر حاجة إلى هذه الأمكنة، كالشباب إضافة إلى ضعف احتضان مؤسسات أخرى للنشاط الثقافي الشبابي، وقد شهدت مدينة "اللاذقية" افتتاح عدة مقاهٍ "ثقافية" منذ أكثر من ربع قرن، أولها: مقهى "قصيدة نثر"، و"صباح ومسا"، ثم تتالت المقاهي بكثرة.

أمسة موسيقية في الأوركسترا

يحتج الناقد "ياسر اسكيف" على الاسم أولاً، ويتساءل في حديث مع مدونة وطن “eSyria”، بتاريخ 30 كانون الثاني 2014: «عما يميز هذه المقاهي من غيرها، هل هي قيام هذا المكان بدوره التقليدي إضافة إلى الثقافي؟ أم هو الاستثمار الثقافي الحقيقي مُطعَّماً بخدمات أخرى، تماشياً مع القوانين الناظمة لعمل المراكز والتجمعات الثقافية، تلك التي تمارس تضييقاً خانقاً على كلّ ما هو غير رسمي؟».

ويضيف بقوله: «أجدني أميل، بعد مراقبة واستعراض الاستثمارات التي تمظهرت تحت اسم مقاهٍ ثقافية، إلى أن المسألة لا تتجاوز حالة الاستثمار الخدمي الذي يريد أن يبعد عن نفسه صفة الربحيّ سيئة السمعة، وربّما كانت هنالك حالات شديدة الندرة، تغلّب فيها الهمّ الثقافي إلى حين، على الهم المادي، غير أن جميع المقاهي التي تنسب لنفسها صفة (الثقافي) قد جعلت من هذه الصفة حملة دعائية مجّانية لا أكثر، فهذه المقاهي لا تمتلك إرادة تنفيذ أي برنامج ثقافي متكامل ومستمر، لأسباب ذاتية تتعلق بالتعارض بين الهم الثقافي والغاية الربحية حيناً، وحيناً آخر خارجيّة تتعلق بإرادات لا تعترف بأية ثقافة خارج تصوّرها، والسؤال الأكثر أهمية من كلّ ما سبق: هل بإمكان أي من هذه الأمكنة أي المقاهي أن تتحوّل إلى بؤرة ثقافية مركزية تستقطب وتفعّل العمل الثقافي الهامشي الذي أسقطته الجهات الرسمية المعنية من قوائمها؟ حيث يتحوّل هذا العمل إلى مكوّن بنيوي يصف المكان ويعرّفه، بما في ذلك إتاحة الفرصة لرأس المال كي يكمل دوراته بأمان؟ أعتقد أن أي جواب سيكون بالنفي، وهذا يدعوني إلى القول: إنه ما من مقهى سيستحقّ لقب، أو صفة (ثقافي) في المدى المنظور، ولكن يبقى أيضاً "الرمد أفضل من العمى"».

أمسية عراقية في مقهى قصيدة نثر

ولكن هناك من يرى أن هذه الأمكنة قد قدمت فعلاً ما هو "ثقافي"، وله في ذلك مبرراته، يقول المسرحي "قيس زريقة" مستثمر نادي "الأوركسترا" أحد الأندية "الثقافية" في المدينة: «إن هذه "المقاهي" هي البديل الأهلي ـوقد أسمح لنفسي أن أقول: البديل المدني ـ عن المراكز الثقافية التي يحتاج تفعيل نشاط صغير فيها إلى الكثير من الروتين، من هنا كان هاجس نشوء هذا البديل، وأعتقد أنه بدأت تتشكل لدى الشباب وأصدقائهم ثقافة المقهى الثقافي الذي نذهب إليه لرؤية فيلم ما، أو أمسية ما أو سهرة ما، ونحن نتبادل الحديث مع فنجان قهوة أو شاي، فهذا الشخص بحضوره اليومي في المقهى يرى كل فترة قد لا تتجاوز الأسبوعين معرضاً جديداً للفن التشكيلي، وبالتأكيد سوف يلتقط جزءاً بسيطاً مما تقدمه هذه اللوحات، معرفياً كان أم جمالياً، فقد يسألك عن اسم الفنان، أو عن مدرسته الفنية، وهو بنفس الوقت يدفع مبلغاً ما لقاء جلوسه في هذا المقهى، ويرى أن هذه اللوحة تباع بالمبلغ الفلاني، وأن الفن لا يمكن أن يكون مجانياً لأنه إبداعي، وهذا ما قد يخلق ثقافة جديدة بأهمية أن يكون الفن جزءاً من تقاليدنا اليومية».

حققت هذه الظاهرة حضوراً ثقافياً متفاوت القيمة لكثيرين من المبدعين في مختلف المجالات، يتحدث عن هذا الجانب الشاعر الشاب "علاء أحمد" ـوقد قدم عدة أمسيات شعرية في عدة مقاهٍ ـ فيقول: «(إن لم تشأ القدوم إلينا، سنأتي إليك) هذا لسان حال المقاهي الثقافية، إذ يفاضلُ الشابُّ بين ارتياد المقهى، أو حضور فعالية ثقافية في مراكز متخصصة، ويميل إلى الخَيار الأول غالباً، هذه الأفكار الإبداعية هي شكل من أشكال الابتكار في الوصولِ إلى الشريحة الهدف، وإذ نثقُ بنبل الغاية، فلا مشكلة في الوسيلة، على ألا تبقى هذه الوسيلة رهينة خجلٍ أو تكاسل، بل عليها أن تطور نفسها بشكل دائم لتفرض الحضور خارج الأرض والجمهور».

من افتتاح أحد المعارض

ولكن هل تصنع هذه المقاهي "ظاهرة ثقافية" تراكمية حقيقية؟ بعض النقاد والمبدعين يرون أنها لا تفعل، وأنها ليست أكثر من مكان جديد للمديح وتعويم الإبداع بمختلف أشكاله دون المرور في مصافي النقد والتدقيق، الشاعر الشاب "سومر شحادة" قدم أيضاً العديد من الأماسي الشعرية في هذه المقاهي، يقول تعقيباً: «ما يؤرق فعلاً، هو تحول الثقافة إلى ذريعة في بعض المقاهي، وهذا يحصل كذريعة لاستقطاب جمهور يتخذ من الثقافة (بريستيجاً)، ولكي تكتمل الصورة، يكون البذخ هنا حاضراً بقوة، وهذه مشكلة، لكن بالمفاضلة مع الإيجابية الأهم وهي أن هذه المقاهي أتاحت للشباب الظهور أمام الناس دون الدخول في متاهة الحسابات (غير الإبداعية) التي تلزم للوصول إلى المنابر الرسمية، ينبغي عدم التوقف كثيراً عندها، وينبغي الاعتراف بهذا الفضل، ثمة تلقائية في التعاطي، قد تسمع شاعراً للمرة الأولى ثم تتبع أخباره وتذهب لحضور أمسية لهُ في مركز ثقافي لم تكن تتوقع الدخول إليه، هذا يحصل، وهو بالضبط ما يمكن التعويل عليه».

ويؤكد الشاعر "علاء أحمد" أن المكان في حد ذاته قد يخلق نوعاً من التردد لدى المبدع والمتلقي على حد سواء، إذ يُقلق الأول فكرة عرضٍ في سوق، ويُقلقُ الثاني اقتحاماً غير مألوف لميدانٍ يعتقدُ أنّه نجح بتسطيحهِ إلى درجة الخدر الذي صار مع شديد الأسف حلاً لاستنزاف الإنسان، في هذه الأيام تبدو الحاجة ملحة إلى جدّية في التعاطي مع الظاهرة، لا بدّ من دعمٍ معنوي ومادي كبيرٍ لها، وبالدرجة الأولى إعطاؤها العمق الكافي، بما يشجّعُ لنقلها إلى مستوى نوعيّ أكثر نضجاً».

يبقى أن نشير إلى أن هذه الظاهرة لا تنتشر فقط في "اللاذقية"، بل في كل المحافظات السورية، ولها أنصارها، ولها خصومها، ومهما يكن فهي تعبير عن رغبة بوجود فضاء ثقافي مختلف نحتاجه جميعاً في ظل الظروف الراهنة.