تستنزف مجتمعاتنا العولمة، وتستهلكها التقنية ومنها وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، ومع غياب الوعي بمخاطرها تنشأ مشكلات تحتاج إلى عمل وانتباه مستمرين درءاً لحدوث الانقسام الأسري.

قبل حوالي الشهرين من الآن شهد العالم الافتراضي معركة غير مسبوقة بين رجل وزوجته على إحدى صفحات حل المشكلات الأسرية (هكذا يفترض) انتهت بالطلاق، في الأسباب التي ذكرها كلاهما: انغماس كل منهما في "الشات" والصفحات وقتاً طويلاً وإهمال كل ما له علاقة بالبيت من كليهما، وفي النهاية كان الضحية الابن الصغير ذي الخمس سنوات.

ينبغي ألا ننظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي نظرة سلبية أو إيجابية محضة، بل يجب أن ننظر إليها بحيادية. إن طريقة استخدامنا لتلك الوسائل هي التي تحدد كيفية تأثيرها فينا وفي من حولنا

ليست هذه المشكلة سوى رأس جبل المشكلات في تلك الصفحات، ومنها ما هو أدهى وأمرّ، في حديث للشاب "صلاح بلول" (علم اجتماع، جامعة تشرين) مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 3 آذار 2015، استفاض بشرح هذه المشكلات، فقال: «بالتأكيد لكل اختراع وجهاه السلبي والإيجابي، وما زاد الطين بلةً انتشار الخلوي والإنترنت في كل الأماكن العامة وفي البيوت وفي مختلف المستويات الاجتماعية أفقياً وعمودياً، وفي مجتمعاتنا يطفو السلبي أكثر بسبب قلة الوعي المرافق لاستعمال هذه التقنيات والحدود والمحاذير التي يجب اتباعها في الاستخدام والحياة اليومية، إضافة إلى أن البنية الاجتماعية نفسها تفسح المجال لحدوث مثل هذه التشققات بسرعة، فكثيرون من الآباء والأمهات ينغمسون في هذه اللعبة دون إدراك مفهوم الحقوق والواجبات التي عليهم أداؤها أو العكس، من هنا تبدأ المشكلات الظهور وتكون عادة حادة لأنها ناتجة عن حصيلة كاملة من التغييب والقهر الاجتماعي وقلة الوعي وأسباب أخرى مهمة».

د.سوسن الحكيم

على صعيد الشباب داخل الأسر هناك معضلات إضافية، الصمت أصبح سيد العلاقة التي تربط أفراد الأسرة مع بعضهم بعضاً، لا وقت سوى للخلوات الإفرادية والحروف المسروقة على الشاشات المتنوعة من خلوي وتاب وحاسوب، تقول الشابة "نسرين حيدر": «نقضي أحياناً ساعات من دون كلام، الجميع منغمسون بالشاشات، فكل شخص يضحك وحده أو يعبس وحده، لا قواسم مشتركة تجمع بين أفراد البيت الواحد، نتواصل مع المقيمين في أماكن بعيدة كالمغتربين أو من في محافظات أخرى وننسى من هم بقربنا، وتقتصر اللقاءات الحميمة على مواعيد الطعام، للأسف نفقد يوماً بعد آخر علاقاتنا الحميمة؛ و"الكل مبسوط" بهذا التغيير، ولا يستطيع أحد تركه والعودة إلى ضجيج الحياة اليومية».

ليس هذا فقط ما يحدث، مع مزيد من التواصل الصامت هناك مزيد من التطبيقات التي تزاحم ساعات الحياة وتطفئ كل أمل بعلاقات اجتماعية سليمة مبنية على التوازن، تقول الآنسة "سهام زعرور": «حتى لو انقطعت الكهرباء فإن "الموبايلات" تكمل هذا اللقاء الصامت، تطبيقات "التشات" على "الموبايلات" كـ"الواتس أب" و"الفايبر"، وغيرهما سوف تصبح قريباً "ضرّةً" للرجل كما للمرأة، فكل منهما مشغول مع أصدقائه وصديقاته، والمشكلة الأكبر هي في إمكانية حدوث تفكك أسري خاصة في حالة وجود مشكلات بين الزوجين أصلاً».

صلاح بلول

لكن أليس علينا "نحن" مسؤولية ما تجاه هذا التغيير أم نكتفي بالشكوى والتذمر؟ الدكتورة "سوسن الحكيم" مديرة مركز "حكيم لعلوم التفوق والإبداع" تقول: «يبدو أن أكثر الأبحاث الأولية والكثير من التصريحات المبكرة حول مواقع التواصل الاجتماعي تم ترتيبها حيث تثير خوف الآباء من هذه التكنولوجيا الجديدة التي لا يفهمها الكثيرون منهم كما يفهمها أبناؤهم».

يتجه العلماء حالياً إلى فهم هذا العالم الجديد بطريقة مغايرة، تقول الدكتورة "حكيم"، «حيث بدأ الكثيرون منهم التعرف إلى مواقع التواصل الاجتماعي من منطلق إيجابي يرى الباحثون فيه فرصاً لتحديد المشكلات وسماع صرخات الاستغاثة، وتقديم المعلومات والدعم، ويحذرون من إصدار أحكام مطلقة على أخطار التعامل معها».

محل "موبايلات"

يقول الدكتور "مايكل ريتش"، طبيب الأطفال ومدير مركز الإعلام وصحة الأطفال بمستشفى "بوسطن" للأطفال: «ينبغي ألا ننظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي نظرة سلبية أو إيجابية محضة، بل يجب أن ننظر إليها بحيادية. إن طريقة استخدامنا لتلك الوسائل هي التي تحدد كيفية تأثيرها فينا وفي من حولنا».

تضيف الدكتورة "حكيم" قائلة: «علينا أن نعمل معاً كأهل ومدارس وجامعات ومؤسسات على ترشيد استخدام وسائل الاتصال الاجتماعي من قبل أفراد المجتمع بكافة شرائحهم، وإيجاد صفحات ومواقع ممتعة ومفيدة ومدروسة لاستقطاب هذه الأعداد الهائلة والمتزايدة من مستخدميها وتوجيهها إلى الفائدة والمتعة بطريقة غير مباشرة، وبدلاً من الشكوى المستمرة من هذه المواقع والتحذير منها والخوف من تأثيرها، علينا أن نتجه نحو الاستفادة منها لنكون مؤثرين وفاعلين ونتخذها منبراً للتعريف بقيمنا وحضارتنا الجميلة، والإضاءة على إشراقاتنا ومبدعينا ومساعدة شبابنا وشاباتنا في إيجاد ورسم حياتهم ومستقبلهم بأفضل طريقة للوصول إلى مستقبل جميل مشرق يستحقونه».

إذاً، الخلاصة الأولية هي ضرورة إعادة النظر بمفاهيمنا نحن تجاه هذه الوسائل الاجتماعية المهمة، واستخدامها بما يناسب حاجاتنا واهتماماتنا بعيداً عن التذمر والشكوى.