تقع بلدة "المزيرعة" الجبلية إلى الشرق من مدينة "اللاذقية"، تتوزع على سفوحها وحافتي الطريق المؤدي إليها أشجار السنديان والصنوبر، والصخور القديمة التي أخذت لون الزمن، وتكثر فيها الينابيع التي أعطت الحياة استمراراً، وحملت لقب "الفاتيكان" بين العامة.

ترتفع البلدة 200 متر عن سطح البحر، يقول مختار القرية "أحمد سلطان": «إنها قرية قديمة جداً يصل عمرها إلى آلاف السنين»، ويضيف في حديثه لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 7 كانون الثاني 2016: «الأدلة والبراهين كثيرة على قدم القرية، منها: (البيوت الحجرية، القبور، النواغيص، الينابيع)، كما أن أهلها الحاليين ينحدرون من أكثر من جدّ، وتذكر المصادر التاريخية أنهم أتوا مجموعات من "سنجار" في "العراق" قبل مئات السنين، ومنهم من أتى من "اليونان" و"أنطاكية"، واتخذوا لأنفسهم بيوتاً قرب ينابيعها "عين الحياة"، و"عين البيدر"، وعملوا بالزراعة».

كان التبغ في ذلك الوقت مورد رزق لقسم كبير من أهالي "المزيرعة"، معتمدين في نقله ونقل المحاصيل الأخرى على الحمير والبغال، وكانت الخيل من الوسائل المهمة لكون الطريق غير سالك إلا في الصيف

تعد عائلة "خوري" من العائلات القديمة التي ضمها التجمع السكاني الأول في البلدة، يقول المحامي "إلياس أيوب خوري": «جاءت عائلتي إلى البلدة من "أنطاكية" قبل 250 سنة، واستقرت فيها، وهي عائلة كهنة (خوارنة الأب ثم الابن)، ولا يزال مدفن أحد أجدادي الكاهن "الخوري جرجس" الذي قتل أيام الأتراك وسط مدينة "القرداحة"، وكنا نقيم بالحارة المسماة "الخوري"، وإلى جانبنا حارة "شربك" و"منصور" و"العاصي"، وكل عائلة تملك البيت الذي تقيم فيه، كما كانوا يملكون الأراضي الزراعية بمساحات كبيرة ضمن "المزيرعة" والقرى المحيطة بها، ويعيشون مما تدره الزراعة بأنواعها المختلفة كالقمح، والشعير، والعدس،.. إلخ، والأشجار المثمرة، مثل: الزيتون، المشمش، التين، والتفاح».

المحامي إلياس خوري

بعض العائلات عملت بالتجارة وبوجه خاص تجارة "الدخان" المسمى "أبو ريحة" الذي كان يوضع في بيوت للتدخين ويباع كدخان أسود للتجار في "اللاذقية" بحسب "خوري"؛ الذي يضيف: «كان التبغ في ذلك الوقت مورد رزق لقسم كبير من أهالي "المزيرعة"، معتمدين في نقله ونقل المحاصيل الأخرى على الحمير والبغال، وكانت الخيل من الوسائل المهمة لكون الطريق غير سالك إلا في الصيف».

امتازت البلدة باهتمامها المبكر بالعلم؛ إذ أقيمت مدرسة فيها ليتعلم أبناؤها من الإناث والذكور عام 1880، ومن الذين حصلوا على الشهادة الابتدائية عام 1935 باللغتين العربية والفرنسية "نخلة إيليا خوري" والد الكاهن "الخوري"، و"زريقة العاصي"؛ حيث أتما المرحلة الابتدائية في مدرسة "المزيرعة الرسمية" ثم انتقلا إلى "اللاذقية" لمتابعة دراستهما الإعدادية والثانوية، ويضيف "الخوري": «جمعت أهل البلدة علاقة محبة ووئام، وكان والدي "الخوري أيوب" يهتم بالعلوم المتنوعة من طب، وأدب، ودين، واجتماع، ويحث أهل البلدة على إرسال أولادهم إلى المدرسة وضرورة تعليمهم، وكان الطبيب المعالج لأمراض أهل البلدة منذ عام 1920 حتى وفاته عام 1974».

مختار المزيرعة

من أشهر العائلات القديمة في القرية عائلة "كنجو"؛ يحدثنا "معد كنجو" عما حفظته ذاكرته من أحاديث جدته "كلثوم خازم" عن البلدة والعائلة، فيقول: «جد العائلة "كنجو بن يوسف" جاء القرية قادماً من "سنجار" في العراق، وكان زعيماً معروفاً بالكرم والقوة ونصرة المظلوم، وأورث تلك الصفات إلى حفيده "أبو علي كنجو" الذي توفي عام 1940 وهو في عمر الثمانين، كان يملك مساحات كبيرة من الأراضي، ويسكن في "الحارة الغربية" من البلدة في بيت من التراب والحجر، يتألف من طابقين، وبابه خشبي ودرجه حجري، وهناك إلى جانبه بيت كبير "منزول" مقسم إلى غرف بواسطة عيدان القصب، خصص منه غرفة للضيافة وأخرى للجلوس، وغرفة للأطفال وأخرى للنساء، وبداخله موقد كبير للتدفئة والطبخ، وبالقرب منه تتوضع حارات "الجاموس" و"ديب" و"خديجة"».

كانت "المزيرعة" وماتزال نقطة وصل بين مناطق عديدة، حيث يقول "كنجو": «الآتي من "صلنفة" أو "الحفة" إلى "القرداحة" يمر على بيت "أبو علي كنجو" ليستريح ويتناول الطعام وينام، ثم يتابع مسيره في اليوم الثاني، والناس يقصدونه لحل المشكلات والخلافات، وكان يلبس خاتماً بإصبعه يستخدمه كختم في المراسلات بين المناطق، وكان يحب تربية الخيل، ويقيم سباقاً للخيل بين مجموعة من الخيالة في مكان من البلدة يسمى "البيدر"، حيث يقدمون العروض المختلفة».

المزيرعة في صورة على غوغل إيرث.

فيما قال رئيس البلدية "أنيس شاليش" متحدثاً عن ميزة أهل "المزيرعة": «يتميز أهلها بعلاقات اجتماعية طيبة؛ فهم يزورون بعضهم في الفرح والحزن، ويحبون الحياة، وللتعليم نصيب كبير بين سكانها، يوجد بين أهلها حملة الشهادات الجامعية من كافة الاختصاصات، ويعملون بوظائف مختلفة في البلدة والمدينة، لكن عملهم بالزراعة تراجع مؤخراً، وهناك بعض العائلات تقيم في المدينة وبعضها خارج القطر، حيث يقومون كل مدة بزيارتها».

أصل اسم "المزيرعة" كما يقول الباحث "محمد حطاب" في كتابه "معجم أسماء قرى اللاذقية" هو تصغير اسم "مزرعة"، وفي تاريخها الأول كانت مزرعة صغيرة لم تلبث أن كبرت.

تسمى "المزيرعة" في الأوساط المحلية اللاذقانية "الفاتيكان"؛ باعتبار أنها خرّجت عشرات رجال الدين المسيحي؛ وعلى رأسهم مطران "اللاذقية" الحالي "يوحنا منصور"، علماً أنها تعد مركز ناحية إدارية تتبع إلى منطقة "الحفة" في محافظة "اللاذقية"، وتتبع لها ثلاثون قرية.