في العام 1947 وفي قرية "محمد الذياب" رُزق الشاعر "محمد الذخيرة" بولدٍ أسماه "محمود"، وقد كان الجميع يتوسمُ بأبنائه الشعر والحكاية وعلم النسب والتاريخ، لاحق الصغير المعرفة لينال لقب مدرس في قرية "المشلب"، وينهل من بيئتها الثقافية الأدب والخلق.

مدوّنةُ وطن "eSyria" فتحت ملف الراحل "محمود الذخيرة" بتاريخ 11 تشرين الأول 2019، الذي تحدث لمراسل "الرقة" قبل وفاته، عن سيرة الشعر، فقال: «بلغ والدي "محمد الذخيرة" الخامسة والخمسين من عمره دون زواج، فاجتمع "الذياب" من حوله (ويقصد فخذ "الذياب" من عشيرة "العفادلة" التي تقطن وادي "الفرات"، وتمتلك الأرض الزراعية المحاذية للنهر من وادي "الفيض" غرب "الرقة" حتى تخوم "دير الزور") وقالوا لوالدي نريد أن (نستضنيك)، أي نريد تزويجك لتنجب لنا ابناً مثلك، فوافق والدي، وخطبوا له إحدى قريباته، بعد قصص حب شتى انتهت بالفراق، وتحدت عنها بأكثر من 300 بيت من لون (الموليّا)، افتقدت بعضها، ووجدت الكثير ممن افتقدته لدى عمي "حبيب"؛ الذي كانت تربطه معه قربى عدا النسب الذي يلتقيان به بالجد السابع، وكانت جدته "دله الغانم" المعروفة بذكائها عمة جدتي لأبي "زهية الخلف الغانم". ومن تلك الأبيات التي وجدتها:

"محمود الذخيرة" الشاعر الذي لم يستطع أن ينافسه أحد، وهو الذي امتلك قلوب عشاق الأغنية الفراتية من خلال روعة الصورة، وحلاوة الإيقاع، كما هي قصيدته: مسعد يذاك النجم الفوگهم منثور .. يدموع عيني جرن أزود من الخابور

"الحيل مني نحل بگيت أني بس عود .. ع الزين مالي نجد من لامتي بس عود

جهال يا اهل الهوى اللي حظى بسعود .. ينهب لذيذ العمر تراه عاريّه".

عندما بدأت أقرض الشعر؛ لم أجرؤ على الاقتراب من لون (الموليّا)، كيف ذلك وأنا ببيت "حليلة" سيد (الموليّا)، فاخترت لون (النايل)، وقلت أول بيت فيه من نظمي:

أصدق يجاري النهر اليوم ماجنك .. بميك كرفنا مسچ ريام وردنك

لكني لا ألبث بين الفينة والأخرى إذ أدلو بدلوي، وأنظم من (الموليّا) الشيء اليسير، مثل:

لقمان جرح الهوى تاه بتواصيفه .. لا هو طبيبي ولا آني أصبر على حيفو

جيبم حبيب الگلب يداوي على كيفو .. يبري جروحي گبل ما يمتعن بيّه».

ويتابع عن قصته مع الشعر: «في منتصف الثمانينيات، اتجهت إلى القصيدة الحديثة، وكتبت قصيدتي المعروفة:

شحذت الشوگ من عينك أخاف انك ترجعني

أنا لطاريك لمن اسمع أحس لك نار تلجعني

يا ريت إني وشم دگات على الذباح تطبعني.

إضافة لقصائد عدة مثل "ديرة هلي"، و"يبست يا عود لا تذبل"، وغيرها الكثير.

كما كتبت (القصيد)، و(العتابا)، وفي لقاء لي مع المطرب العراقي "ياس خضر" في منزل "قيس الأحمد الهويدي" أمليت عليه بيت (العتابا) الذي أقول فيه:

شثگل حمل الليالي بغير ندماي .. غثيث البال يلچمني وندماي

أنا كل همي وحسراتي وندماي .. على عمرٍ تخطاه الشباب.

وسمعته فيما بعد عندما غناه بحفلة إذاعية أسماها "يا ناي"».

لقد تحققت فرضية الاستضناء، وأنجب "محمد الذخيرة" الشاعر المبدع، والذاكرة الحافلة بالأحداث التي لم يؤرخها قلم، الرجل الطيب، الكريم، محب العروبة والقربى، والشاعر الذي لم يمدح أحد، ولم يهج أحد، وسخر شعره للغزل العذري العفيف، الذي بناه على الصورة الجميلة البكر، كما في قصيدته:

گصرٍ منور على كل البلد راجي .. بيه الخليفة گعد اللابس التاجي

ملبوسها من الغوى سندس وديباجي .. واستبرق وأنقري ملبوس حوريّه

كان الرجل البسيط الذي أحب أرضه في "حويجة الذخيرة" التي قال فيها: أفضل افتراشها والاتكاء على ترابها على قصور الدنيا».

عن "محمود الذخيرة" قال "خالد العبد" المعاصر له ولأشعاره: «عرفته منذ صباي شاعراً جميلاً أنيقاً، محباً للجيران والأقارب، وكان يتبادل الحب مع الشعر، والقمر، والجمال، و"الفرات". كما كتب الشعر الفصيح إلى جانب الشعر الشعبي، وأكثر ما أحببت من شعره قوله: ياما گعدنا سوى والبيت برواگين .. وضحضح علينا الگمر ما بين تشرينين».

كما قالت عنه "زهرة الجاسم" إحدى النساء اللواتي حفظت من شعره، ورددته: «"محمود الذخيرة" الشاعر الذي لم يستطع أن ينافسه أحد، وهو الذي امتلك قلوب عشاق الأغنية الفراتية من خلال روعة الصورة، وحلاوة الإيقاع، كما هي قصيدته:

مسعد يذاك النجم الفوگهم منثور .. يدموع عيني جرن أزود من الخابور».

يذكر أنّ الشاعر "محمود الذخيرة" توفي في العام 2017، تاركاً إرثاً كبيراً من الأشعار والدواوين، ومخطوطات في التراث الشعبي التي لم يطبع منها إلا كتابه "أهل الرقة في ثلاثة قرون".