عاهد نفسه ألا يقتل طائراً لغاية التحنيط، فاشتهر بمهارته التي تستخرج جمال الطير وعذوبة تحليقه، وكان مقصد أهل قريته لكل الأعمال الفنية التي ارتبطت بمناسبات خاصة.

احتل "وديع القاسم" ركناً في أحد شوارع قرية "الثعلة" الرئيسة، ينشر منها صوراً لأعماله المتميزة، التي يحتفظ بها الأهالي ذكرى لطيور جميلة الألوان والأشكال، عبرت في رحلة هجرة اعتيادية أو استثنائية، حيث تجد لديه من أنواع الطيور ما يتكفل بالتعريف بفصائل متنوعة مرت راحلة أو عائدة، كما تحدث من خلال مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 30 حزيران 2018، وقال: «هواية التحنيط أتت بعد العمل في المجال الفني الزيتي والخط والنحت، لكن الطيور عالم آخر، فمن راقب تحليق أجنحتها لا يمكنه أن ينسى جمالها، وقد كانت تجربتي الأولى مع طائر أحضره أخي كانت ألوانه مميزة وشكله جميل، يومها لم أمتلك أي معلومات، لكنني استعنت بالملح ومادة "الشبة" وفق معلومات قديمة في المنطقة، وحنّطته بالفعل، وكانت تجربة ناجحة، واستمر أكثر من عامين، بعدها أخذت أطور تجربتي وأستعين بمواد بحثت عنها لإتقان العمل الذي بدأ وسيبقى هواية لغاية المحافظة على الطائر بشكل جميل لسنوات أطول.

خبرة كبيرة جمعها بجهد ذاتي، ونجح في المحافظة على كل ما يريده من طيور بأشكالها الجميلة مجسداً حركتها الطبيعية في التحليق والحركات الجميلة للطائر التي توهم الناظر بأنها غير محنطة، وكأنها على قيد الحياة، لتجد الصياد منا متابعاً له لأننا نجد لديه باستمرار أنواعاً جميلة. ولا يخلو منزل من لوحات رسمها بإحساسه لأحد أفراد العائلة، فقد رسم صورة والدي وعدد من أفراد أسرتنا، فهو رسام القرية وتجد لديه كل جميل

ولأنني أعشق الطيور عاهدت نفسي ألا أحنّط أو أقتل طائراً أمامه فرصة للحياة والطيران من جديد. وكنت أطلقه مهما كان جميلاً، لكن عندما يكون الجناح مكسوراً فلا مفر، هنا أقوم بعملي مستفيداً من مزايا الجمال التي يمتلكها الطائر محاولاً الابتعاد قدر الإمكان عن السائد في طرائق التحنيط التقليدية، فالطائر له حركات وإيحاءات تعطيه صفة جمالية طبيعية ومتوازنة لأتعامل مع كتلة جسمه بهدوء وصبر، لتكوين الشكل والاستعانة بمواد خاصة أركز بها على المفاصل، لأصمم الشكل الذي أرغب به لكل طائر وفق حجمه وشكله وعمره.

الفنان وديع القاسم

مئات الطيور تعاملت معها وترافق التحنيط مع بحث على شبكة الإنترنت عن الطائر؛ فصيلته وصفاته، لأتمكن من تحديد العمر وموطنه، وبناء عليه يكون التعامل مع الجسم وكيفية إضافة زينة خاصة، لتحتل اليوم أماكن مميزة في عدد كبير من المنازل داخل وخارج قريتي».

عن الفن ورحلته التي بدأت من دروس الرسم طفلاً، يضيف: «الرسم والتحنيط ينطلقان من محور الجمال واقتناص أجمل الملامح، تلك التي كنت أبحث عنها منذ الطفولة مع دروس الرسم والتجارب الأولى مع أساتذتي، وما كنت أضيفه إلى أي موضوع يعالجه المدرّس، لأن الخطوط والألوان على الورق الأبيض كانت تعني لي الكثير في تلك المرحلة، ليبقى اللون رفيقاً ووسيلة للحديث والتواصل مع عالم أجمل، وتابعت خلال الدراسة، وكنت مشاركاً دائماً في المعارض حتى سنوات الدراسة الجامعية التي لم أكللها بالتخرج.

من طيوره التي تزين ورشته

ففي تلك المرحلة رسمت البيدر ومحاصيل الأرض والخير وبيت الجد وتفاصيل الحجارة والقرية، وكنت أبحث عن الفكرة لأحصل على تجربتي الذاتية مختبراً عدة أساليب وطرائق، لكنني بعد الاستقرار في القرية وتجربة رسم البورتريه لكبار السن من عائلتي، بات أهالي قريتي يطلبون مني رسم صور كبارهم ولقطات وثّقت أفراحهم.

هي تجربة راقتني، وشغلت مساحة كبيرة من الوقت، ولمست استحسان الأصدقاء وأهالي القرية للعمل؛ فقد أنجز في الشهر الواحد عدة صور وأفرح برؤية هذه الصور تزين مضافات القرية، فقد اعتدنا الاحتفاظ بصور أحبابنا وأهلنا من كبار السن خاصة، ولم يقتصر الموضوع على من غادروا الحياة، فلدي تجارب برسم صور للشباب والعرسان ولقطات مختلفة».

نايف غريزي

لم يتقن الفن بحثاً عن عمل لكن التجربة جعلت الفن محور عمله، وقال: «أملك ورشة للزجاج وأقوم بعملي على مستوى القرية. الفن فرض حضوره ليطلب مني أعمالاً فنية تخصصت بالاستشراق وأعمال اخترت مواضيعها تبعاً لرؤيتي الخاصة، وقد كان لي مشاركات في معارض جماعية، وفي كل مرحلة أضيف تجربة جديدة بالحفر أو النحت على البازلت أو الرخام، فما أنجزه ارتبط كثيراً بتلبية احتياجات أهالي قريتي، وتزدحم ورشتي بالأعمال التي أنجزها بحب، وبما ينسجم مع الحالة الاجتماعية، وكانت آخر أعمالي على البازلت تصميم نصب لشهداء القرية احتل مكانه في إحدى الساحات وأعمال متنوعة، وتناولت الصحف تجربتي بالنحت على الثلج لصورة قائد الثورة السورية الكبرى.

وآخر المحنطات أفعى خرجت بعد أمطار غزيرة، وثقت بها حالات استثنائية لأمطار بغير موعدها زارتنا هذا العام، تفاصيل قد لا تعني الكثير لمن يتابع عن بعد، ولأنني ابن قرية فأنا معني بكل مظاهر الحياة الطبيعة والإنسان وما نجسده يبقى الرصيد والرسالة».

درّب نفسه على تحنيط الطيور بلا مساعدة أحد باهتمام ليكون مقصد أبناء قريته، ومنهم "نايف غريزي" موظف ويهوى الصيد، حيث قال: «خبرة كبيرة جمعها بجهد ذاتي، ونجح في المحافظة على كل ما يريده من طيور بأشكالها الجميلة مجسداً حركتها الطبيعية في التحليق والحركات الجميلة للطائر التي توهم الناظر بأنها غير محنطة، وكأنها على قيد الحياة، لتجد الصياد منا متابعاً له لأننا نجد لديه باستمرار أنواعاً جميلة.

ولا يخلو منزل من لوحات رسمها بإحساسه لأحد أفراد العائلة، فقد رسم صورة والدي وعدد من أفراد أسرتنا، فهو رسام القرية وتجد لديه كل جميل».

الفنانة "رشا أبو عامر" تابعت أعماله، وتحدثت عن تجربته مع عدة أنواع فنية، وقالت: «فنان متميز، في أعماله حس بصري على اختلاف الوسائل المستخدمة بإنتاج الأعمال الفنية التي شغلت أو أخذت حيزاً كبيراً من وقته مثل الرسم والنحت والحفر، تميز بعدة مجالات أبرزها الخط العربي، وبرع بالأعمال الواقعية، حيث أخذ من الواقع الطبيعي، وصاغه بطريقة جديدة، وعمل على هذه المدرسة، ونقل صوراً طبق الأصل بتفاصيلها وأبعادها وبأدق التفاصيل، واتجه خارج الطرائق التقليدية.

المدرسة الانطباعية هي واحدة من الأساليب الفنية الي اعتمد فيها نقل الواقع من الطبيعة مباشرة بعيداً عن التخيل أو المنظور الذاتي للفنان، ونقل انطباعه عن المشهد من دون تفاصيل أو دقة لكونها من الطبيعة مباشرة، ويمكننا القول إنه دمج بين المدرستين الواقعية والانطباعية بأسلوب حديث، ولديه نقاط مميزة بالنحت والحفر على الزجاج لا يمكن أن ننساها».

ما يجدر ذكره، أن "وديع القاسم" من مواليد عام 1965، قرية "الثعلة".