تركتِ الصيدلة، واختارتِ التدريسَ طريقاً شاقاً لحياة قصيرة، زرعت فيه المحبّة والإبداع، ونبشت مكامن القوّة في عقول وقلوب الطلاب الذين راحوا يبتكرون أشياء لا يصنعها إلا الكبار، شكّلت مع الأهالي خلية نحلٍ يومية لا تستكين، فصنعت الفارق.

مدونةُ وطن "eSyria" التقت بتاريخ 1 آب 2019، المربية "هدى الطويل" لتتحدث عن طريقها في التدريس، فقالت: «كل إنسان مميز بشيء، طفولتي كانت بسيطة وسعيدة كوني كنت مدللة من قبل والديّ اللذين لا يمتلكان شهادات عالية لكن لديهما ثقافة كبيرة، فوالدي كان يمتلك مكتبة كبيرة في "ليبيا"، و"الإمارات"، وكان يطوّرها دائماً، ويطوّر ثقافته، وينقل لنا تجربته، وكان همُّ الراحلة أمي أن ننشأ في بيئة سليمة وصحيّة، بعيدة عن المشاكل، وهذا النمط أثر كثيراً في نفسيتي، وكان الشيء الذي رافقني منذ طفولتي تلك الأحاديث مع ورود الأقحوان التي نبتت جانب المنزل، وهو ما أكسبني الخيال، وحبّ الطبيعة، انتقلت من مدرسة إلى أخرى بسبب ظروف السكن، وهذا الأمر خلّف لديّ إحساساً بالوحدة والغربة، ولهذا كلّما أتى طفل جديد إلى القاعة أعمل كل جهدي حتى يتأقلم مع رفاقه، وأتواصل مع رفاقه كي يساعدوه على تجاوز وحدته بأيّ وسيلة، وأحياناً أخرج إلى الباحة في أوقات الفرصة لكي ألعب معه وأمسك بيده حتى يشعر بالأمان، وأقسِّمُ الأطفال إلى فريقين للعب، وأكون من فريق الطفل الجديد. أذكر أنّني في عيد المعلم عندما كنت في الصف الخامس بكيت كثيراً لأنّ هديتي كانت متواضعة كثيراً، حيث قامت المعلمة بفتح الهدايا أمامنا، وشاهدت هدايا زملائي، ولهذا لا أفتح هدايا عيد المعلم أمام الطلاب، وأحتفل بالطفل الذي صنع هديته بيديه مهما كانت، وبالمختصر كانت الطفولة مدرسة مهمة لأكون مدرّسة مستقبلاً، حيث تأثرت ببعض المعلمات اللواتي ما بخلن علينا بشيء من حنان وعلم، واصطدمت بواقع غريب عن رسالة المعلم التي فهمتُ أنّه يحملها بين يديه ولم أجدها، وعندما بدأتْ رحلتي مع التدريس اكتشفتُ كم كان هذا الكلام بعيداً عن التطبيق، ولهذا عندي أمل كبير أن نغير الواقع بالجمال والمحبّة والمهارة».

نشعر أمامها بالحرج والخجل، فهي التي تبادر يومياً بالسؤال عن أطفالنا، وهي التي استخرجت كل هذا الجمال بنفوسهم. وتخصص كل وقتها للطالب، وتدفعه دائماً للتميز، وتشغل وقته بالمفيد البعيد عن كل هذا الضجيج من حولنا وعن وسائل الترفيه الحديثة المؤذية، لقد اكتسبنا من خلالها أبناءً نعولُ عليهم الكثير في المستقبل

دخلتُ التدريس عن قناعة تامة، وتركت كلية الصيدلة التي يطمع بها الكثير، وكانت وما زالت مصممة على ترك بصمتها في أي مكان تضع قدميها فيه، حيث قالت: «أحبّ الرسم والموسيقا والرقص التعبيري، وحاولت تعلم العزف على آلة "العود"، وأعشق الأشغال اليدوية بكل أشكالها، وأؤمن أن اليدين هما بوابة التعبير الأولى للإنسان. تأثرت بأولئك الذين صنعوا الفارق معي في الدراسة، وكذلك تأثري بعدد من الأفلام الغربية التي تتناول رسالة المعلم ومحاولة تغييره للمجتمع، وهكذا كان القرار المصيري أن أكون معلمة، وألاحق حلمي دون الالتفات للخلف، بعد انتهاء الدراسة الجامعية، تم تعييني في مدرسة "نمرة" للتعليم الأساسي، واستلمت الصف الثالث، وكنت أشعر بالراحة من الطريقة التي أتبعتها مع الأطفال وأهاليهم، وكانت ثقة الأهالي في عملي تمنحني الكثير من الطاقة لبذل المزيد من الجهد، حيث أتت النتائج رائعة، وحتى هذه اللحظة أتواصل مع هذه الدفعة التي نالت الشهادة الثانوية هذه السنة.

مع عدد من طلابها

وعلى الغالب كان الصف الأول من نصيبي بعد ذلك، وهو صف متعب وحساس، وأعدّ الفصل الأول منه هدراً للوقت، لأنّ الأطفال حساسين جداً في عالم غريب عنهم، ودائماً ما يهرب أغلبُ المدرسين من هذه المهمة، وفي إحدى السنوات توفيت والدتي قبل المدرسة بأيام، وكان الحزن يلفني، وخضت أكبر تحدٍّ مع ذاتي، فلا ذنب للأطفال بما أصابني، دخلت القاعة، ولعبت مع الأطفال، غنيت ورقصت معهم، ووضعت شالاً ملوناً في حقيبتي، كنت أرتديه كلما دخلت القاعة لكسر اللون الأسود، كانت أصعب سنة دراسية، ولكن نتائجها جاءت جداً رائعة بالنسبة لي وللأهالي والأطفال، وهؤلاء هم الذين بنيت معهم مشروعي التعليمي المبني على إخراج إبداعات الأطفال، ومن هنا كان المعرض الكبير الذي أقمته بعد انتهاء المدارس، وقد نال اهتمام المجتمع المحلي الذي ذهل من إبداعات الأطفال».

ولا تنسى "الطويل" فترة دراستها الجامعية، وما اكتسبته من خلالها، وقالت: «درست في كلية التربية بـ"السويداء"، وكنت في الدفعة الأولى عند افتتاحها، ولكن للأسف كانت الدفعة التجريبية كما يقال، تعذبنا كثيراً؛ سواء من ناحية قلّة المراجع لحلقات البحث والمشاريع، وقلّة الخبرة من بعض المحاضرين، كنت أريد هذه التجربة في "دمشق" لكي أزور الأماكن التي أحبّها، مثل دار "الأوبرا"، ومكتبة "الأسد"، ودور الفنون والمعارض، حاولت تعويض هذا النقص هنا، ولم أتخلف عن حضور أي أمسيةٍ أو معرضٍ في المراكز الثقافية القريبة، وشاهدت مسرحيات وتجارب مسرحية عديدة، لكنها لم تشفِ غليلي، تخرجت بدرجة ممتاز، وتقدمت لشهادة الماجستير، ونجحت بالامتحان الوطني بدرجة ممتاز، لكن معدلات كلية "درعا" نالت كل المقاعد، ولم أستطع الإكمال، أحاول مسابقة الزمن وتجريب كل شيء، وأنا الآن طالبة في مركز الفنون التشكيلية بالمركز الثقافي في "شهبا"، أتابع مع طلابي ما بدأناه بشكل يومي، وخلال العطل والمدرسة بالتعاون مع الأهالي الذين يدركون ويقدّرون ما أصبو إليه».

من المعرض المدرسي

أقامت العديد من النشاطات والمعارض، وكانت تنسب النجاح لطلابها، والفشل إن وجد لها، ولكن معرضها الأخير الذي أقيم في ثقافي "شهبا"، توّج مسيرة طويلة من العطاء، وقالت عن هذه التجربة: «فكرة المعرض كانت من السنة الماضية، عملت وطلابي منذ بدايات العام الدراسي على أفكار غنية ومبتكرة بهدف إقامة معرض كبير، وخلقنا من فكرة صغيرة معرضاً بحديقة المدرسة باستخدام الإطارات، وكان ذلك بشهر نيسان الماضي حيث تضمن أعمال الأطفال، لكن النتائج لم تكن مرضية لي على الأقل، لأنّ المعروضات لم تلق التقدير المناسب، وهو ما ينطبق على أغلب المعارض التي جرت في السنوات السابقة، مثل معرض التراث الشعبي منذ سنتين الذي انتهى حتى قبل أن يشاهده المدرسون في المدرسة نفهسا.

وعندما طرحت إدارة المركز الثقافي في "شهبا" فكرة العرض بالمركز قبلت فوراً، وتعاونت مع الأهالي على إنجازه خلال ثلاثة أسابيع، فظهرت سيارات تمشي وأشكال توضيحية مبتكرة، وآلات من توالف البيئة وأعمال مدهشة لا يصدق أحد أنّها من صنع أطفال بعضهم لم يتجاوز العاشرة».

تجربة علمية لطالب صغير

مدربة البرمجة اللغوية العصبية "غيداء الزوبعة" قالت عنها: «تتمتع "هدى الطويل" باحترام أهالي المدينة، فعاطفتها تجاه الأطفال تضاهي الأمهات، انسحبت من الصيدلة لتحقق رسالتها التي خطتها بيديها وهي صغيرة، تميزها بمهنتها وقدرتها على التعامل مع الأطفال جعل من الأهالي شركاء حقيقيين في النجاح الذي تحققه مع الطلاب، مربية وأم عظيمة ملهمة لطلابها، أنجزت دورة الدراسة الذكية بتميز في العام الماضي، نشجعها لإكمال الماجستير والدكتوراه، فلم أرَ طوال حياتي العملية معلمةً تحتضن طلابها مثلها، ما أحوجنا لهذا النوع من المربيين البنّائين الصادقين مع أنفسهم، ومع المجتمع».

"فراس حيدر" ولي أمر أحد تلاميذ المربية "هدى" قال: «نشعر أمامها بالحرج والخجل، فهي التي تبادر يومياً بالسؤال عن أطفالنا، وهي التي استخرجت كل هذا الجمال بنفوسهم. وتخصص كل وقتها للطالب، وتدفعه دائماً للتميز، وتشغل وقته بالمفيد البعيد عن كل هذا الضجيج من حولنا وعن وسائل الترفيه الحديثة المؤذية، لقد اكتسبنا من خلالها أبناءً نعولُ عليهم الكثير في المستقبل».

يذكر أنّ المربية "هدى الطويل" من مواليد مدينة "شهبا" العام 1987.