يعدّ الدكتور "ربيع رستم" مثال للفتى القادم من عمق ريف "السّويداء" البائس والمنسيّ، حيث وظّف ذاكرته في الغربة ليسرد تفاصيل الحياة الرّيفية، وعباراتها في حكاياته الطريفة، حتى تحول إلى ذلك الرجل الذي ينتظره الآلاف كل يوم، ليقدم وجبة دسمة من المتعة والفائدة.

مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 5 كانون الثاني 2018، تواصلت مع الدّكتور "ربيع رستم"، المقيم في "المملكة المتحدة"، لتصل مع كلماته إلى عمق حنينه وشوقه إلى الوطن وذكرياته، حيث يقول: «لم يكن توجهي إلى الحكايات الشّعبية هدفاً، بل حدث عن طريق المصادفة، فقد جمعتني الغربة بأصدقاء تكالبت عليهم الهموم والأحزان، فكانت الحكايات الشّعبيّة السّاخرة تخلق جواً من المرح والبهجة، وتخفف مصاعب الغربة، وتحول الشّوق إلى جوّ يشعرنا وكأننا في الوطن، فآلام الغربة وتبعاتها لا يمكن مداواتها وبتر أسبابها إلا بالضحك والبسمة. كنا نحكيها، ثم ندونها على مواقع التّواصل الاجتماعي، فقد كانت تعبّر عن تجارب آبائنا وأجدادنا وموروثهم من الآلام والآمال، وكانت غنية بمغزاها ورموزها، ووصفها للواقع المعاش كما كان، وكما حدث وليس كما كان يجب عليه أن يكون، وعند تدوينها كان لا بد من تضخيمها لتصبح قريبة من ضمير القارئ ووجدانه».

عرفته حين كتب إليّ يخبرني بصدور مجموعته الأولى "ضربات على الكاحل"، وطلب مني أن أراجع له المجموعة الثانية "قطب مخفية"، وأكتب له كلمة على غلافها. يمتلك "رستم" ذاكرة نشطة جعلته يستوعب الحياة الرّيفيّة بتفاصيلها، كما يستوعب العبارات التي كادت تمحى من ذاكرة الكثيرين، ووظف هذه الذّاكرة النّشطة في حكاياته الطريفة بجرأة، وربما سبّبت له انتقاد بعض القراء. لكن عذره في ذلك أن الكثير من المواقف التي تعرّض لها في حكاياته تفقد ألقها وبهاءها فيما لو كتبت بغير الصّيغة التي كتبت بها. وربما كان سرّ جمالها في هذا القالب الذي تشكل على ألسنة الناس البسطاء

ويتابع: «لم يكن نقل الحكايات الشفهية إلى حكايات مكتوبة بالأمر السهل، فالأدب المكتوب يجب أن يصنف تحت لون معين من المسميات الأدبية المعروفة ليكون أدباً، ولكي لا نقع في بوتقة النّقد، خرجنا من عباءة الأدب، وصرنا نكتب في نمط لا يمكن تبويبه تحت أي نوع من الألوان الأدبية؛ يهدف فقط إلى الإمتاع والمؤانسة وتسليط الضّوء على قضية اجتماعية معينة، وبهذا خرجنا عن سياق الأدب الرّفيع الذي امتهنه كبار المفكرين والأدباء، وابتعدنا عن الأدب التقليدي واللغة الفصحى، فصرنا نسرد الحكايات باللغة العامية؛ فهي قريبة من الناس، وتخرج من الرّوح بأسلوب فطري. لقد تقلصت مساحة تداول الحكايات الشفهية بسبب البعد وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ورحيل الكثيرين من حفظة هذه الحكايات، فقد خشينا عليها من الضياع، وخاصة أن بعض مصطلحاتها قد قارب على الاندثار، فعملنا على مواكبتها وتحويلها إلى حكايات مكتوبة، تعرضنا فيها إلى بعض عادات وتقاليد المجتمع الريفي، فكان شخوصها كبار الملاكين والإقطاعيين والمرابعين ومن يعملون بأغلب المهن السّائدة، وحاولنا تصوير الحياة بواقعية، فلم نتقيد بالعادات والتّقاليد والآداب الاجتماعيّة المحافظة، أو ما يعرف بأدب المضافة، فكانت هذه الحكايات أقرب إلى ما يمكن أن يطلق عليه اسم "أدب الشّوارع".

من مؤلفاته

لم تكن هذه الحكايات فقط سرداً لأحداث تاريخية، بل معاصرة أيضاً، فقد كنا نتقصى الطّرفة ونمحص عما شذ وخرج عن العرف للفت النّظر إلى قضية اجتماعيّة معينة، ونقد الظّواهر غير السوية من خلال قول شعبي يحمل معنى مزدوجاً يبعث على الضحك في مضمون تهكمي لاذع، وخاصة أن مجتمعنا يخشى من الضّحك ويعدّه أحياناً نذيراً للمصائب، فنحن نقول بعد كل بسمة: (الله يجيرنا من شر هالضحكة). وخلاصة القول إننا نكتب لنحوّل بكاءنا إلى بسمة، ونتخفى خلف الكلمات خوفاً من لسان القريب ومقصلة الرقيب».

وعن "ربيع رستم" تحدث الأديب والشّاعر "موفق نادر"، بالقول: «كان أحد طلّابي في الصّف الثّالث الثّانوي - الفرع العلمي، ووجدت لديه مزايا لا يمتلكها الآخرون من أقرانه في المَيل إلى نفض ما يحدث حوله بنقد يقطر سخريةً لطيفة؛ فيها من عناصر المرارة أكثر ممّا فيها من الدّعوة إلى الضّحك، وكأنّ قسوة الظّروف قد شحذت فيه هذا العقل النّاقد القادر على التقاط المفارقة التي يعجز الآخرون عن اكتنازها. وتوهجت ملَكته الناقدة، فكان أكثر قدرة على تحويل ما في جعبته من مواقف العيش ومفارقاته من تراجيديا إلى كوميديا دامعة، وكشف عن مخزون من الذّكريات ينمّ على أنّه منذ طفولته الباكرة لم يكن يمرّ بالأحداث مروراً عابراً، بل إنّه يختزنها لتكون مادّة أوّليّة لنصوصه القادمة. عندما دفع "ربيع" مسوّدة كتابه "ضربات على الكاحل" إليّ لم أتفاجأ أبداً. إنّه يمتلك كثيراً من عدّة الكاتب السّاخر، مع صعوبة هذا المنحى في عالم الإبداع الأدبي، وهكذا كان، فقد لاقى كتابه إعجاباً وتقريضاً كبيرين ليكون فسحة لالتقاط الأنفاس وانتزاع الابتسامة من بين أنياب الحياة الكالحة، واللافت أنّ الدّكتور "ربيع" لم ينقل ما حدث في الواقع حرفيّاً، بل أعاد تشكيل الوقائع بما يمنح حكاياته مغزى نقديّاً اجتماعياً وفكريّاً، وكان جريئاً في اقتحام ما يحدث في المخادع السريّة لأبطاله البسطاء أو في مجتمعات التديّن الرّخو راسماً المفارقات بلغة بسيطة مرحة أقرب ما تكون إلى ما يلهج به أشخاصُه حقيقة من دون حذلقات أو مداورات لغويّة، ومع كتابه "قُطَبٌ مخفيّة" نعلم أنّ نتاجه هذا ليس محض سردٍ لمخزون من الذّكريات الملتبسة بالوقائع، بل هي موهبة أدبيّة لها مزاياها التي تؤهّلها لأن نحتفيَ بها، وسوف تظلُّ هذه الموهبةُ تحثُّ خيول كتابته لتتواصل نتاجاته الجميلة. وقد أضاف إلى جوهره الإنساني علامة فارقة أخرى حين أهدى ريع كتابيه إلى جمعيات خيرية تسعى إلى رفع بعض الحيف عن البشر المعذبين».

الشاعر الأديب موفق نادر

الروائي "فوزات رزق" تحدث عن معرفته بالدكتور "ربيع رستم"، فقال: «عرفته حين كتب إليّ يخبرني بصدور مجموعته الأولى "ضربات على الكاحل"، وطلب مني أن أراجع له المجموعة الثانية "قطب مخفية"، وأكتب له كلمة على غلافها. يمتلك "رستم" ذاكرة نشطة جعلته يستوعب الحياة الرّيفيّة بتفاصيلها، كما يستوعب العبارات التي كادت تمحى من ذاكرة الكثيرين، ووظف هذه الذّاكرة النّشطة في حكاياته الطريفة بجرأة، وربما سبّبت له انتقاد بعض القراء. لكن عذره في ذلك أن الكثير من المواقف التي تعرّض لها في حكاياته تفقد ألقها وبهاءها فيما لو كتبت بغير الصّيغة التي كتبت بها. وربما كان سرّ جمالها في هذا القالب الذي تشكل على ألسنة الناس البسطاء».

يذكر، أن الدّكتور "ربيع رستم" أستاذ جامعي، من مواليد "السويداء" عام 1978، باحث علمي سوري يعمل في جامعة "هيريوت وات" في "المملكة المتحدة"، حاصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة "دمشق" عام 2001، ماجستير في إدارة المخاطر البيئية من جامعة "بواتيه" في "فرنسا" عام 2003، ودكتوراه في الهندسة المدنية من جامعة "هيريوت وات" عام 2009، وفي عام 2015 حصل على شهادة ما بعد التّخرّج في طرائق التّعليم الأكاديمي من ذات الجامعة، وأصبح عضواً في أكاديمية التّعليم العالي البريطانية. له نحو 25 بحثاً علمياً منشورة باللغة الإنكليزية، وألّف كتاب "نمذجة محطات معالجة المياه العادمة باستخدام طرائق الذّكاء الصناعي".