لم يكن تحويل مضافة قديمة مصنوعة من البازلت إلى متحف للتراث بالأمر السهل، وتطلب من عائلة "أبو زين الدين" ثماني سنوات كاملة من العمل المضني والبحث المتواصل، والتكلفة المادية العالية، حتى باتت تحفة فنية راقية لفتت انتباه المواطنين وخبراء الآثار.

المضافة التي يزيد عمرها على المئة عام، كانت لأحد المجاهدين أثناء الثورة "السورية الكبرى"، وتضم العديد من الأدوات التراثية التي استخدمت في الماضي، حيث حاول وارثوها تقسيمها إلى العديد من الأقسام التي تشكلت حسب الزمن والغاية، بدءاً من العصور الموغلة في القدم، وحتى منتصف القرن الماضي.

تعلمت من والدي الذي أمضى سنوات في هذه الهواية الجميلة. كنت صغيراً جداً عندما بدأت أكتشف الأدوات التي كان الإنسان القديم يستخدمها في حياته، ورحت أسأل عن كل شيء، وأعاين القطع عن قرب. أحتاج بعد إلى الكثير كي أستطيع معرفة كل شيء عن المتحف وقطعه الصغيرة التي لها مكانة خاصة عند الجميع، خاصة القطع النقدية، لكنني مستمتع بكل لحظة فيه

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 12 آب 2018، أصغر دليل تراثي في العائلة اليافع "ريان أبو زين الدين" ليتحدث عن تجربته مع الأدوات التراثية وكيف اكتسبها، فقال: «تعلمت من والدي الذي أمضى سنوات في هذه الهواية الجميلة. كنت صغيراً جداً عندما بدأت أكتشف الأدوات التي كان الإنسان القديم يستخدمها في حياته، ورحت أسأل عن كل شيء، وأعاين القطع عن قرب.

جانب من المعروضات

أحتاج بعد إلى الكثير كي أستطيع معرفة كل شيء عن المتحف وقطعه الصغيرة التي لها مكانة خاصة عند الجميع، خاصة القطع النقدية، لكنني مستمتع بكل لحظة فيه».

وعن تقسيمات المتحف التراثي، وظروف العمل، قال "عصمت أبو زين الدين": «بعد أشهر من التخطيط والعمل، والاستشارات فيما بيننا وبعض المهتمين أصحاب التجربة، كانت المضافة بقناطرها الجميلة وتقسيماتها الفريدة التي كانت عاملاً مساعداً لنا في وضع الأدوات التراثية التي تعدّ بالآلاف. حرصنا في بداية العمل على أن يكون صدر المضافة لأكثر الأدوات اللافتة للنظر، وهي الأسلحة القديمة التي كانت بيد الثوار السوريين أثناء الاحتلالين العثماني والفرنسي، ومنها ما هو نادر جداً، كبندقية "أم صوان". وكذلك حرصنا على وجود السلاح الأبيض منذ مئات السنين، وخاصة السيوف و"البلطات" التي كان منها "بلطة" رومانية، إضافة إلى بعض المقتنيات الحربية التي غنمها الثوار من أعدائهم أيام "فرنسا" والاحتلال العثماني».

منظر عام للمتحف التراثي

ويتابع "أبو زين الدين" حديثه عن الأقسام: «مقابل صدر المضافة؛ أي عند المدخل وزاويتيه المتقابلتين، توضعت القطع الغارقة في القدم، التي استخدمها الإنسان القديم في الزراعة والصناعة وحياته اليومية، كأدوات الخيول، والطبخ، والإنارة، والخياطة، وحياكة الصوف. وهناك قطع حجرية مصنوعة من الصوان يعود عمرها إلى آلاف السنين، حرصنا على اقتنائها من أجل دراسة عملية التطور الحضاري وصولاً إلى هنا.

واحتلت أدوات المرأة جانباً من المتحف، بأدوات زينتها، والماكينات التي كانت تستخدمها، وكذلك شغلها للقش، والمكواة القديمة المخصصة لكيّ الثياب بأنواعها. وحوى وسط المضافة مجموعات عديدة من الأدوات الصغيرة والدقيقة للزينة التي يعود بعضها إلى أيام الفراعنة و"زنوبيا"، مثل الحلق وأدوات الشعر والأمشاط. فيما كان منتصف المتحف يتزين بأدوات القهوة والإنارة والميازين ومفاتيح الأبواب، والعديد من القطع التي كان الإنسان يستخدمها للترفيه عن نفسه».

عملات نادرة

أما أكثر المعروضات جذباً للمواطنين الذين توافدوا بكثرة لرؤية المحتويات، فكان مكانها الطبيعي وسط المضافة، حيث تفاعل الجميع مع مجموعة كبيرة من القطع النقدية التي لا يقدر بعضها بثمن، وكذلك الأختام والطوابع، وأضاف "عصمت" عن ذلك: «كان موضوع القطع النقدية أكثر من شائك، والحصول على هذه الكمية الكبيرة منه تطلب سنوات من العمل والبحث، وهنا تجد أغلب القطع التي كانت تستخدم في "سورية"، التي يعود بعضها إلى العصور البيزنطية والرومانية، وهناك قطع نادرة لا تقدر بثمن، وقد حاولنا أن نعرف تاريخها عن طريق الخبراء والمهتمين بالآثار، وباتت لدينا خبرة جيدة بالشرح والمعرفة عنها. أما فيما يتعلق بالطوابع، فقد حصلنا على أختام تعود إلى مئات السنين، وليس لها مثيل أيضاً، ومنها ما هو تابع لشخصيات قديمة كان لها شأن في المنطقة. وحصلنا من خلال البحث عن الوثائق النادرة والمفكرات على مجموعة نادرة من الطوابع، ومنها عائد إلى بداية ما سمي دولة "جبل الدروز" في العشرينات من القرن الماضي».

المفاجآت لا تنتهي في المتحف الذي أطلق عليه أصحابه "مضافة أهلنا" تعبيراً عن أنه لكل الناس، ومتاح في أي لحظة أمام الزوار، حيث يقول المخرج "تيسير العباس" عضو جمعية "العاديات": «المتحف الذي حمل آلاف القطع من أدوات التراث المادي واللامادي يعدّ نقلة نوعية في توثيق التراث في المحافظة، وهو بالترتيب الذي بدا عليه، وبما يحتويه من نوادر يمكن أن يساعد طلاب العلم على استثماره بالطريقة المثلى للدراسة والبحث العملي. وقد شدتني أدوات الطبيب الغارقة في القدم من حيث دقتها وتفاصيلها التي تطورت مع الزمن، وكان لافتاً للانتباه صندوق العطارة القديم، وما يحتويه من تقسيمات متعددة للنباتات النادرة الموجودة فيه.

والذي يدخل إلى هنا ليس بإمكانه الخروج بسهولة، خاصة أن مشاهدة القطع تحتاج إلى ساعات من التأمل، فهنا تجد المتعة والفائدة والدهشة في الوقت نفسه».

يذكر أن "عصمت هايل أبو زين الدين" من مواليد مدينة "شهبا" عام 1973. وقد عمل لمدة ثماني سنوات بمساعدة كبيرة من والده وإخوته حتى تمكنوا من تحقيق الحلم في جمع هذه التحف النادرة، وعرضها للناس.