يروي التاريخ في إحدى صفحاته عن أحد شيوخ جزيرة "أرواد"، عرفه كل فرد من أفرادها في ذلك الزمان، وما تزال الأجيال تروي عنه وعن الأثر الذي تركه في الجزيرة.

eSyria قام بجولة إلى جزيرة "أرواد" بتاريخ 3/4/2009 لمعرفة قصة الشيخ "عثمان العسيلي" كما عرفه أفراد عائلته والمقرّبون منه.

بقي الشيخ "عثمان" في وظيفته كإمام شرعي وخطابي في المسجد حتى وفاته سنة 1950، حيث حزن عليه جميع أبناء الجزيرة صغيراً وكبيراً، تاركاً ثلاث بنات ولم ينجب ذكراً

يذكر عنه أحد أحفاده-"خالد العسيلي"، ما سمعه من عائلته التي يقطن أغلبها الجزيرة، والقسم الآخر محافظتي "طرطوس" و"اللاذقية" فيقول: «ولد الشيخ "عثمان بن أحمد العسيلي" ونشأ في جزيرة "أرواد" من ساحل الشام عام 1860م.

م.خالد العسيلي

كان والده من كبار تجار "أرواد" في الوقت الذي كانت فيه الجزيرة مجمعاً للسفن ومركزاً تجارياً لجزء كبير من الساحل السوري وما وراءه».

وتابع: «كان جده لأبيه ووالد جده أيضاً من مشايخ الجزيرة، أما والدته فمن آل "حمود"، وعرف عنهم إقبالهم على العلم الشرعي ودراستهم في "الجامع الأزهر"، فكان تأثر الشيخ بأسرتيه في طلب هذا العلم».

عثمان العسيلي

أما ابن أخيه "عثمان بن عبد الرزاق العسيلي"، فالحديث معه عن الشيخ يطول، وهو عمه الذي كان له الفضل في تحمل مسؤولية الأسرة بعد وفاة والده، كان كبير إخوته، يقول: «بعد حفظه لـ"القرآن الكريم" في كتّاب أحد شيوخ الجزيرة أقبل على مبادئ العربية والعلوم الدينية يتلقاها معتمداً على أحد أجداده لأمّه، ثم سافر إلى "مصر" ليلتحق بـ"الأزهر" عندما سمحت له سنه، وعاد إلى بلده ولم يستطع الانصراف عن العلوم الشرعية التي استهوته، حتى بعد أن ترك له والده عبء أسرته بعد وفاته، فمضى بمتابعة تلك العلوم بنشاط، وبرزت آثار متابعته في دروسه وخطبه وعمله في القضاء الشرعي، لما كان له من ثقافة دينية وأدبية وتاريخية واسعة».

وأضاف: «أثرت أجواء الجزيرة المحافظة في أخلاق الشيخ وتصرفاته إذ كان كثير الوقار طويل الأناة لطيف المعشر، لا يمنعه الجد من التبسط مع تلاميذه وأصدقائه في حدود المعقول، وقيل أنه نظم بعض مزاحه لهم في أبيات كانوا يحفظونها».

الشيخ "محم سليمان"

ويروي ابن الأخ "عثمان العسيلي" عن سنوات الشيخ التي قضى معظمها في ظل الخلافة الإسلامية العثمانية، فيقول: «قضى الشيخ "عثمان أحمد العسيلي" معظم عمره المديد في ظل الخلافة العثمانية قبل أن تدخل "أرواد" بعض قطع الأسطول الفرنسي سنة 1915م، حيث فرضت عليها سيطرتها بعد أشهر من الحصار، ولم يكن في "أرواد" أيّة قوة عسكرية».

وتابع: «مع بدء الحكم العسكري الفرنسي لجزيرة "أرواد" قرروا استقدام بعض العملاء إلى الجزيرة من الساحل السوري، للتهتك والإساءة إلى السكان بعدما عرفوه من تمسكهم بالأخلاق الإسلامية، فكان الشيخ "عثمان" في طليعة المواجهين لقوات الاحتلال وللطابور الخامس من العملاء المحليين ممن كانوا يدّعون التقدمية والثورية».

وتابع حديثه عن مواقف الشيخ التي لم تستطع السلطة والنفوذ الأجنبي إجباره على التخلي عنها

فقال: «عندما زار القائد الفرنسي لمستعمرات الشرق الأوسط جزيرة "أرواد"، حضر الشيخ "عثمان" مصطحباً معه رئيس البلدية وأخبره ما يحاول الحاكم نشره من فساد أخلاقي هو وعملاؤه، فما كان من هذا القائد إلا أن قدر الشيخ "عثمان العسيلي" ورئيس البلدية وأصدر أمره إلى الحاكم بصيانة الأخلاق وفق ما يراه الشيخ القاضي».

وعن دور الشيخ في نشر العلوم المختلفة أضاف قائلاً: «لم يقتصر دور الشيخ على إصلاح الأخلاق، بل حوّل الجامع الغربي في الجزيرة إلى مدرسة عامة يدرّس فيها علوم "القرآن الكريم" وعلوم الحديث النبوي الشريف وعلوم اللغة العربية، وألّف الرسائل المفيدة في الرد على المبشرين الفرانسيسكان، كما ألف كتباً في قواعد اللغة العربية.

كان لرسالته "فضائح المبشرين" صدىً طيباً في "سورية"، كما كان من مؤلفات الشيخ رسالة "المسيح والمرأة الفينيقية" والعديد من الرسائل التي كانت تنشر على صفحات الجرائد في "بيروت" وسواها، ومن كتبه أيضاً كتاب "بغية المشتاق لتهذيب الأخلاق"».

أحد تلاميذه المقربين- الشيخ "محمد سليمان" حدثنا عنه عند زيارتنا له في منزله الكائن في حي "العجمة" في "طرطوس"، فقال: «درس الشيخ "عثمان" في "الأزهر" لمدة غير طويلة ثم عاد إلى "أرواد" بعد وفاة والده، وكان هو كبير إخوته الأربعة، حيث بقي فيها يطالع كتب خاله الشيخ "مصطفى حمود".

كان متوسط القامة، فيه حياء في وجهه، يدخل من الصومعة يوم الجمعة تفوح منه الرائحة الطيبة، وكان أنيقاً في لباسه».

وبما أنّ طلبه للعلم لم يقتصر على بلده "سورية"، فقد سهل عليه سفره الحصول على مبتغاه، فكما شرح: «أحضر معه من "مصر" مجموعة كتب، وأخذ يدرس ويطالع في صومعة جامع "القلعة" في "أرواد"، واستلم إمام الجامع وبقي يمارس وظيفته في المسجد، كما عين قاضياً شرعياً إلى أن احتل الفرنسيون الجزيرة عام 1916.

عندها طلبه وجهاء "أرواد" ليقابل القادة الفرنسيين، فألقى خطبةً شهيرة ولم يمالئ الفرنسيين في شيء».

ثقافته الدينية الواسعة كانت له عوناً في مواجهة أعداء الإسلام في ذلك الحين، حيث تجلى ذلك واضحاً في خطبه وردوده على منشوراتهم، وعنها يقول الشيخ "محمد سليمان": «أثناء حكم الفرنسيين على "سورية" نشر البروتستانت بعض الكتب التي تشكك في الإسلام، فكتب الشيخ ردوداً عليهم وأذكر منها ما سمي بـ"الرد المتين"، وقد رد عليهم من نصوص الأناجيل، فشكوا إلى الحاكم الفرنسي في "سورية" أن هذا الشيخ يشكك في ديانتنا، وقام الحاكم الفرنسي بسؤال الترجمان ليقرأ له ما كتب الشيخ، فقال لهم: الشيخ لم يعتد عليكم، كل ما كتبه هو من أناجيلكم، وكانت أحد جمله الشهيرة: "إن عدتم عدنا وإن كففتم كففنا، أنتم البادئون ومن حقي أن أدافع عن ديني وعقيدتي"، وكان ذلك الحاكم صاحب عقل ولم يطاوعهم لما أرادوا».

ويضيف عن آخر أيام حياته: «بقي الشيخ "عثمان" في وظيفته كإمام شرعي وخطابي في المسجد حتى وفاته سنة 1950، حيث حزن عليه جميع أبناء الجزيرة صغيراً وكبيراً، تاركاً ثلاث بنات ولم ينجب ذكراً».

من بعض الأبيات التي قالها الشيخ "محمد سليمان" في رثاء معلمه:

الشيخ عثمان الفتى بن محمد آوى إلى الشيخ الكبير زميلا

الشيخ عثمان العسيلي أمّة أمثاله في الناس كان قليلا

تتذاكر الأجيال حسن بيانه رد المتين على العدى مسلولا

أشياخ أرواد الذين عاهدتموهم رحلوا كأيام الربيع فصولا

عثمان أو عبد الرحيم يليهما الشيخ عثمان الأخير رحيلا.