خبر قسوة الحياة؛ فوقف متحدياً لكل عائق اعترضه، لم تتوقف حدود إبداعه لكونه مربياً ترك بصمته التي بقيت في ذاكرة الأجيال، إنما كان فناناً مبدعاً في مجال الغناء والعزف بشهادة أساتذة كبار، إضافة إلى إتقانه عدة مهن؛ إنه المربي الراحل "ابراهيم سليمان علي".

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 1 نيسان 2019، ابنته المربية "فاتن علي" لتحدثنا عن مسيرة حياته، حيث قالت: «في قرية "الصومعة" عاش والدي في كنف أسرة هادئة، مؤلفة من أربع أخوات وثلاثة إخوة، أسرة يغمرها الحنان واللطف في التعامل، وقد توفيت والدته وهو في العاشرة من عمره، ووسط الظروف القاسية والصعبة لمعظم الناس في تلك المرحلة، جاءت وفاة الوالدة لتزيد المشهد قسوةً، فرحيلها حمّله المسؤولية من صغره على كافة الصعد، وقد قال لي يوماً إنه كلما أراد أن يطلب النقود من والده لشراء دفتر أو قلم، يجد أن والده لا يملك أي مقدرة مادية لتلبية متطلباته؛ الأمر الذي دفعه إلى العمل صيفاً لتأمين حاجاته عموماً، والمدرسية على وجه الخصوص، وهذا يعود إلى شدة شغفه بالعلم وحبه لمدرسته، فظروفه لم تقف عائقاً، لكنها زادته تحدياً لواقع قاسٍ، وجعلته يتطلع نحو مستقبل يعيش فيه الإنسان بكرامة، لذلك كانت المنارة الأولى بالنسبة له مدرسة قريته، التي درس فيها المرحلة الابتدائية، وفي "صافيتا" درس الإعدادية، لكنه بسبب الظروف المعيشية القاهرة، أرسل ذات يوم رسالةً إلى أخيه الأكبر، الذي كان حينئذٍ عسكرياً في محافظة "السويداء"، يخبره فيها أنه سيترك المدرسة؛ الأمر الذي دفع بأخيه إلى اصطحابه معه لمتابعة دراسته الإعدادية هناك، ثم عاد ودرس الأول الثانوي في "صافيتا"، لكنه قرر الالتحاق بدار المعلمين في مدينة "حمص"، وعلى الرغم من نصح وإصرار مدرّس مادة الرياضيات آنذاك بعدم الالتحاق بدار المعلمين، ليتابع دراسته لما وجد فيه من قدرة وذكاء، إلا أن والدي صمّم، وبالفعل التحق بدار المعلمين، وكان ذلك في ستينات القرن الماضي، وفيه تخرّج معلماً قديراً.

إنه الإنسان الخلوق المحب، وقد أدهشني يوماً حين سألته عن مهر ابنته، فقال فقط عاملها كإنسانة، وهو رجل ترك بصمته في ذاكرة كل من عرفه، بصمة لن تمحوها الأيام، المربي الفاضل والعازف الماهر، والمغني والمسرحي المبدع، إن تكلم صمت الجميع واستمعوا بشغف، وفي العلم كان موسوعةً حقيقيةً بكل المجالات، ومصلحاً اجتماعياً لا تستغرق معه أي مشكلة مهما بلغت سوى عدّة دقائق لحلها، وكم قدم للمحتاجين تحت اسم فاعل الخير، من دون أن يعلم أحد منهم من المعطي حتى لا يحرجهم

لقد كنا أطفالاً صغاراً عندما حصل والدي على الشهادة الثانوية بدرجات ممتازة، وأكمل بعدها دراسته في كلية الآداب قسم الفلسفة، لكن مرةً أخرى أيضاً تمنعه الظروف الصعبة لعائلتنا من مواصلة دراسته وتحقيق حلمه».

"ابراهيم علي" يعزف على الكمان

وتضيف: «لم أذكر يوماً أنني رأيته من دون كتاب يطالع فيه، فقد كان محباً للعلم والثقافة، والمعرفة يتلقفها كما تتلقف الأرض العطشى قطرة المطر، وهو الذي يوافقه المثل القائل: "كيفما تضربه يرن"، ففي مجال التعليم كان مدرّساً ناجحاً سابقاً لعصره، أحبه كل من علّمه، ولم أسمع يوماً أنه أزعج طالباً، بالعكس كان يأخذ بيده ويحفزه، ويصنع منه إنساناً ذا قيمة، وفي يوم سألته متى نرتقي بالتعليم؟ فأجاب: عندما نعلّم الطالب كيف يتعلّم. أيضاً كان والدي موهوباً بالفن، يحب الأصوات المتناغمة، وقد بدأ تجربته الفنية في العاشرة من عمره، حيث صنع عوداً من أدوات بسيطة من البيئة المحيطة، وشدّ أوتاره الرنانة، وعندما اكتشف مدرّس مادة الموسيقا الراحل "يوسف نوفل" هذه الموهبة، قدم له عوده الخاص إكراماً لموهبة هذا الطالب واحتراماً لقدراته، وجدّي كان من المشجعين لهذه الموهبة المميزة، لذلك وأثناء مرحلة دراسته في "حمص"، التحق بمعهد الأستاذ الراحل "زيد حسن آغا"، الذي بدوره احتضنه من دون أي مقابل مادي، فتعلّم على آلة "الكمان" (شرقي أكاديمي)، وشارك في الحفلات مع الفرقة الموسيقية في "حمص"، وأصبح فناناً بشهادة أساتذة كبار، منهم: "صبحي جارور"، و"هادي بقدونس"، وغيرهما، كما ألّف المسرحيات والأغنيات بمواضيع مختلفة، عرضت على مسرح ثانوية "سنديانة عين حفاض"، وأحيا الحفلات والمناسبات المختلفة، وطلب منه الكثيرون المشاركة في الحفلات المأجورة، لكنه رفض، فهو يحيي الفن لأجل الفن، ويريد من يسمعه لفنه ولو كان شخصاً واحداً».

عنه يقول صهره المدرّس "محمد حبيب مسعود": «إنه الإنسان الخلوق المحب، وقد أدهشني يوماً حين سألته عن مهر ابنته، فقال فقط عاملها كإنسانة، وهو رجل ترك بصمته في ذاكرة كل من عرفه، بصمة لن تمحوها الأيام، المربي الفاضل والعازف الماهر، والمغني والمسرحي المبدع، إن تكلم صمت الجميع واستمعوا بشغف، وفي العلم كان موسوعةً حقيقيةً بكل المجالات، ومصلحاً اجتماعياً لا تستغرق معه أي مشكلة مهما بلغت سوى عدّة دقائق لحلها، وكم قدم للمحتاجين تحت اسم فاعل الخير، من دون أن يعلم أحد منهم من المعطي حتى لا يحرجهم».

المربية "فاتن علي"

أما صديقه المدرّس والشاعر "منذر أحمد"، فقد قال: «لقد عملت مدرّساً في قرية "الصومعة" لمدة خمس سنوات، وقد أصبح خلالها صديق العمر وتوأم الروح، لو عمل في مجال الفن أكثر لوصل إلى قمم هائلة، وهو الذي كان في كل صباح يعزف النشيد العربي السوري، فتشعر وكأن الكمان يبكي بين يديه، متعدد المهن والمواهب، فإلى جانب عمله في التعليم والفن، عمل مزارعاً، ونجاراً، فأبدع من حيث القوة والمتانة واللمسة الفنية الرائعة التي يضيفها إلى كل عمل، بنى بيته حجراً فوق حجر بجهوده وحده، ومما توفر حوله في البيئة، لقد كان دائم النظر نحو الأمام، يضع هدفه ويبدأ رحلة التحدي إلى حين الوصول إلى الغاية».

يذكر، أن المربي والفنان الراحل "ابراهيم علي" من مواليد قرية "الصومعة" في محافظة "طرطوس"، عام 1947.