واقع الحياة الصعب في بيئة ريفية بسيطة دفعه إلى السفر والاغتراب لسنوات طويلة عن بلده، كان خلالها مثالاً للرجل الأمين صاحب المكانة المميزة في قلب كل من عرفه.

لم يتبقّ من أبناء زمنه الجميل إلا قلة من المعمّرين، وما إن تسأل أحداً من شباب قرية "ضهر مطرو" عنه، حتى يسارع بالقول إنه عماد عائلته ومعينها منذ سنوات طويلة وحتى اليوم، على اعتباره كان قبل أسابيع على رأس عمله في "بيروت"، وحادث بسيط تعرض له كان عائقاً في عودته للعمل.

رجل عصامي، صاحب شعبية كبيرة قلّ مثيلها في محيطه ولدى شريحة كبيرة من الناس، فقد كانوا دائماً يقفون إلى جانبه في كل محنة يتعرض لها، وكانوا السند والدعم له عند كل ضيق يمرّ به، وكان دائماً الصديق الوفي والرجل الأمين الصادق والمحب للجميع، ومازال حتى الآن محافظاً على هذه المكانة في قلوب الجميع

إنه المعمّر التسعيني "إبراهيم أحمد علي" المعروف بـ "إبراهيم الشاويش" الذي التقته مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 15 تموز 2018، في قريته "ضهر مطرو" ليحدثنا عن ظروف اغترابه وعمله، حيث قال: «سافرت إلى "لبنان" في بداية أربعينات القرن الماضي، كنت لا أزال في مرحلة مبكرة من الشباب، فلم يكن عمري حينئذٍ يتجاوز العشرين عاماً، سفري كان بقصد العمل؛ فظروف الحياة الاقتصادية عموماً وفي القرية بوجه خاص كانت صعبة، وهناك تنقلت بين عدة أعمال في المعامل والشركات، والسفارة الفرنسية أيضاً، وصولاً إلى العمل في بنك "صباغ" وشركة "صباغ" العقارية، وكانت مرحلة مهمة اكتسبت خلالها الكثير من الخبرات والمعارف، وأخيراً استقر عملي في "فرنسا بنك"، وما زلت حتى الآن أعمل فيه منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وخلال عملي في هذه السنوات الطويلة والمتواصلة، اكتسبت من الخبرة الكثير، وأحطت بكل أسرار العمل، ونلت محبة وثقة الجميع لما قدمته لهم من إخلاص وأمانة تربينا عليها حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من شخصيتي، وحتى هذه اللحظة ما زلت أحتفظ بمكانتي في قلوبهم وقلب كل من عرفني في "لبنان"».

المعمّر إبراهيم وزوجته حليمة

"حليمة أحمد إسماعيل" زوجته ورفيقة أيامه في حلوها ومرّها كما وصفتها، قالت: «تزوجنا في عام ألف وتسعمئة وأربعة وخمسين، ورزقنا بسبعة أولاد؛ أربعة ذكور، وثلاث إناث، منهم من ولد في "سورية"، وآخرون في "لبنان"، لكن والدهم كان مصمماً على أن ينشؤوا في بلدهم، لشدة تعلقه بها وحبه لها، ولطالما كانوا دائماً همّه الشاغل، ودافعه لبذل المزيد من الجهد والوقت لدعمهم في مراحل حياتهم المختلفة، وليؤمن لهم الحياة الكريمة في وقت كانت تعاني القرية ظروفاً اقتصادية صعبة».

وتتابع: «كثيرة هي الضغوطات النفسية التي تعرض لها منذ بداية سفره، واستمرت سنوات طويلة، فالحروب الأهلية والاحتلال الإسرائيلي لـ"بيروت" وأحداث كثيرة مرت خلال رحلة حياته، لم تزده إلا صبراً وإيماناً، على الرغم من شدة ما تعرض له من ضغوطات كسوري يعمل في "لبنان"، لكنها لم تضعفه يوماً، بل زادت من عزيمته، فتضحياته لأجل عائلته، وثقة أرباب العمل، ومحبة الناس المحيطين به، جميعها عوامل لعبت دورها في جعله أكثر قوة وإصراراً لمواجهة أي عائق في تحصيل رزق أبنائه».

المعمّر إبراهيم وابنه غسان

أما "غسان علي" وهو الابن الأكبر له، فيقول: «حقيقةً هي ظاهرة ربما لا يصدقها أحد حتى يشاهد بعينيه رجلاً في الرابعة والتسعين من عمره لا يزال على رأس عمله، فقد عُرف والدي بأمانته وإخلاصه في أي مجال عمل به، أمانة جعلته من أكثر المميزين لدى أصحاب الأعمال، فكان دائماً موضع ثقة الجميع، وهنا لا بد أن أذكر إحدى الحوادث التي اعترضته وأثبت من خلالها وفاءه لمصدر رزقه، ففي يوم حصل تفجير في البنك الذي يعمل فيه، كان والدي يبعد أمتاراً قليلةً عن موقع الحادث، وبحوزته مبلغ كبير من المال قدم لإيداعه هناك، وعلى الرغم من التفجير والخطر الذي أحاط به، نجح في صون الأمانة وحمايتها، وسلمها كاملة إلى أصحاب العمل؛ وهو ما زاد من ثقتهم ومحبتهم وتمسكهم به حتى بعد بلوغه هذه السن، وتقديراً لإخلاصه وتفانيه وما قدمه من خدمات حملت إحدى النشرات التعريفية الخاصة بالبنك صورته تكريماً وتقديراً له لكونه الموظف الأقدم لديهم».

يضيف: «رجل عصامي، صاحب شعبية كبيرة قلّ مثيلها في محيطه ولدى شريحة كبيرة من الناس، فقد كانوا دائماً يقفون إلى جانبه في كل محنة يتعرض لها، وكانوا السند والدعم له عند كل ضيق يمرّ به، وكان دائماً الصديق الوفي والرجل الأمين الصادق والمحب للجميع، ومازال حتى الآن محافظاً على هذه المكانة في قلوب الجميع».

"أحمد سلمان" وهو من أهالي قريته "ضهر مطرو"، قال: «الشمعة التي تحترق في سبيل عائلته ومن يحب، وهو الرجل الاستثنائي بعطائه ومحبته ووفائه، والأهم صدقه مع ذاته والآخرين، صفات امتزجت به بطريقة جعلته محبوباً من قبل كل من عرفه، فلطالما كان منزله مقصداً وملجأً للعديد من أهالي قريته، في فترة اضطرتهم ظروفهم الاقتصادية الصعبة للسفر إلى "لبنان" طلباً للعمل والرزق، فكان بالنسبة لهم بمنزلة الأب والأخ والصديق الوفي، وهو أيضاً الرجل الأمين بكل ما للكلمة من معنى، أمانة اختبرتها الكثير من المواقف الصعبة والأحداث القاسية التي مرّ بها البلد الذي يعيش فيه، فحمل الأمانة بكل قوة وصبر إلى درجة جعلته الموظف الأكثر تميزاً عند كل أصحاب الأعمال التي عمل بها، وعلى الرغم من تقدمه الكبير في السنّ، ما زالوا حتى اللحظة متمسكين بوجوده في العمل، حتى أصبح ظاهرة مميزة قلّ أن نجد مثلها في عالمنا».

يذكر أن المعمّر "إبراهيم علي" من مواليد قرية "ضهر مطرو" في "طرطوس"، عام 1924.