عمل "صبحي ملس" كبير مهندسين بحري لعدة عقود، وعاشر مختلف الجنسيات والقوميات والأعراق، وكانت هوية تعامله مع البحارة الهوية الإنسانية، رفض التقاعد من الحياة بما حمله من أخلاقيات كسبها خلال رحلته الطويلة، فرسم خط سير صباحي يومي يبدأ وينتهي بتجميل الكورنيش البحري.

كان لافتاً خلال مشوار الرياضة الصباحي على الكورنيش البحري لمدينة "بانياس" التابعة لمحافظة "طرطوس"، قيام رجل متقدم في العمر يتعكز على عصاه ويتمتم بتراتيل إنجيلية على وقع مسبحته الصغيرة في يده اليسرى، بالتقاط ما يصادفه من عبوات بلاستيكية فارغة وصحون كرتونية ومناديل ورقية، وجمعها بين الصخور البحرية بعيداً عن الأنظار، محسناً المشهد البصري خلفه.

أحاول أن أستغل وقتي بعد التقاعد في العمل المجتمعي، وهذا دفعني أيضاً لتوظيف ما اكتسبته من خبرات خلال العمل البحري في صيانة الأدوات الكهربائية كالبرادات والغسالات وبالمجان دون مقابل للكثير من الناس غير القادرين على دفع التكاليف، التي أصبحت مرهقة لأرباب الأسر في الوقت الحالي

استوقفه موقع مدوّنة وطن "eSyria" وتعرف عليه وعلى ما يقوم به فقال إنه "صبحي ملس" الذي عمل لحوالي أربعين سنة ككبير مهندسين بحري، خالط خلالها مختلف الانتماءات المجتمعية والمعتقدات والتوجهات الفكرية على مساحة الكرة الأرضية التي جالها سبع مرات، خاصة عندما عمل على متن باخرة يقودها بحارة من تسع عشرة جنسية عربية وأجنبية، ورست في مختلف الموانئ العالمية.

خلال مشواره الصباحي

ويشرح "ملس" ما يقوم به موضحاً أن خط سيره اليومي يبدأ من جوار المحكمة بجانب "دوار الشهداء" نزولاً للكورنيش البحري الشمالي، وصولاً لشاليهات المصفاة بمسافة تزيد على خمسة كم، كمشوار رياضة صباحي يقيه مشاكل الشيخوخة، ويقوم على طول هذا الخط بإزالة كل ما يصادفه من بقايا استهلكت في اليوم السابق خلال سهرات الناس على الكورنيش.

مبيناً أن الكثير من الناس يقضون ليالٍ يتمتعون خلالها بالجمال والهدوء ويخلفون الكثير من القمامة، وهذا يصنف – برأيه - ضمن عدم المسؤولية والوفاء للمكان الذي تنعموا به، فالحس بالمسؤولية لا يمكن أن يكون بالكلام فقط، وإنما بالفعل، وهو سعيد جداً بما يقوم به ولا يهمه كيف يرى الناس هذه المساهمة في بناء الشعور التراكمي بالانتماء.

تجميع البقايا

وعن بداياته قال: «البداية كانت من عاصمة الاقتصاد السوري "حلب"، التي تعمّدت فيها منتصف خمسينيات القرن الماضي، ومن مسقط رأسي، قررت ألا أكون كما بقية أقراني ابن مهنة صناعية حرفية، فكان توجهي نحو العمل البحري، حيث درست في "اليونان" العلوم البحرية، وتدرجت مهنياً بعد التخرج من أكاديميتها حتى وصلت لمرتبة كبير مهندسين، وحملت الهوية الإنسانية في تعاملاتي مع البحارة، ومع الناس العاديين خلال رسو السفن في الموانئ العربية والعالمية، وهذا أكسبني أشياء كثيرة أعتز بها، منها أننا حيث نكون يجب أن يكون الخير والعطاء، ما دفعني بعد التقاعد البحري لوضع بصمتي الإنسانية في المكان الذي أكون فيه».

ويتابع: «أحاول أن أستغل وقتي بعد التقاعد في العمل المجتمعي، وهذا دفعني أيضاً لتوظيف ما اكتسبته من خبرات خلال العمل البحري في صيانة الأدوات الكهربائية كالبرادات والغسالات وبالمجان دون مقابل للكثير من الناس غير القادرين على دفع التكاليف، التي أصبحت مرهقة لأرباب الأسر في الوقت الحالي».

الكورنيش بعد مرور صبحي ملس

ما يقوم به العم "صبحي" خلال مشواره الصباحي لقي احترام مرتادي الكورنيش البحري، حيث قال "موفق عربي" الذي يمارس الرياضة الصباحية على الكورنيش منذ عدة سنوات: «لفتني ما يقوم به هذا الرجل، فقررت السير خلفه لمعرفة غايته، وتفاجأت من قيامه خلال سيره برفقة عكازه أحياناً وشمسيته أحياناً أخرى، بإزالة ما يسهل عليه من مشوهات بصرية وتجميعها بين الصخور الضخمة، محسناً جمالية المكان بشكل عام، وحين علمت بعمله البحري ومرتبته الوظيفية السابقة من أحد الأصدقاء، خجلت من إنسانيته كثيراً، وزاد احترامي لشخصه، وقررت خلال سهراتي وعائلتي على الكورنيش جمع ما ينتج عنا ضمن أكياس خاصة، وحملها لأقرب حاوية قمامة».

بقي أن نذكر المهندس البحري "صبحي ملس" من مواليد "حلب" عام 1946 ومقيم في "بانياس".

تم اللقاء معه بتاريخ 1 تشرين الثاني 2020.