في معادلاتها السرية مع الكتابة تختار لكل حرف نوره وضجيجه الخاص، لتنسج عبر الكلمات أبطالها؛ فالكتابة بالنسبة لها هي ربة الخصب والجمال؛ لذا عليها أن تختار لأجلها أروع التفاصيل بدقة وعناية.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت بتاريخ 26 تشرين الثاني 2017، مع الروائية "ريمة راعي" لتحدثنا عن شغفها بالكتابة، حيث قالت: «لست بارعة في الحديث عن نفسي، ما أعرفه هو أنه كان عليّ دائماً أن أكون محاربة، وأقوم بتسويات عديدة مع الحياة كي أحافظ على هويتي ككاتبة، وأنتصب واقفةً كلما علقت قدمي في واحدة من مصائد الحياة الكثيرة. وأستطيع أن أقول إن الحبيب الوحيد الذي أخلص لي كاملاً، ومنحني الهوية كان قلمي؛ فكلما ابتعدت عنه، كان يعود إليّ بانكسار العشاق المهزوم، يرجوني ألا أتخلى عنه. أما بدايتي مع الكتابة، فكانت حين قرأت قصتي الأولى، واكتشفت أنه مباح أن يتخيل الشخص حكاية، ويرويها كما لو كانت حقيقة، وعوضاً عن أن يقول له الآخرون إنه كاذب، يصفقون له، ويسمون ما اختلقه حكاية».

سافرت معها في بداية مشوّقة لرواية "بائعة الكلمات"، وقد أسلمتني لمتاهات مفعمة بأحاسيس الألم والأمل، لأقوم بتأجيل كل أعمالي ليوم كامل حتى انتهائي من ارتشاف رحيق الكلمات حدّ الثمالة، حيث إنها تمتلك قلماً ساحراً لن تفلت من براثنه لحظة، ولن تنسى كلماتها مهما طال بك العمر

وأضافت: «باتت الكتابة بالنسبة لي هويتي الأكثر صدقاً وحقيقية من أي هوية أخرى، فأنا كائن طليق يشق علي أن أقيد نفسي بقواعد وقوانين؛ لذلك حين أكتب أكون في أعمق حالات شفافيتي مع نفسي ومع الحياة، وإن كل ما أكتبه فيضٌ من تجربتي الحياتية، فلا يمكن لكاتب أن يخترع حكايات وشخصيات من العدم، فهو ينتشل أبطاله من الحياة، لكن ليس بالضرورة أن يحافظ عليهم كما هم، بل ينثرهم بذوراً صغيرة في أرض الحكاية ويسقيها حتى تنمو، ويصبح لها ظلال أكثر امتداداً بكثير مما كان مقدراً لها في الواقع، وذلك كله بفضل عصا الحكايات السحرية».

أحضان مالحة

وحول شبه كتاباتها بشخصيتها، قالت: «ثمة أوقات في الحياة لا نشبه فيها أنفسنا؛ لهذا لا يمكن لكتاباتي أن تشبهني دائماً، لكنها تشبه ما أكون حين أكتبها؛ ففي داخلي نساء كثيرات: الثائرة، المتخاذلة، الغاضبة، الراضية، الجامحة، المتريثة، الحزينة، الصاخبة، الناضجة، الطفلة، نساءٌ يثير وجودهن كثيراً من الفوضى داخلي، لكنني أغلب الأوقات أرتب فوضاهن على الورق، وأتعرف إليهن بذات الدهشة كل مرة. وحين أكتب أكون شاهدة على إطلاق آلاف الفراشات المحتجزة داخلي، وتحرير فيض من الأسئلة والهواجس في محاولة لخلق عالم بديل أستطيع أن أمارس فيه -وإن كان لمدة محدودة- بهجة صنع حكاية لا يعترض سيرها غيري، في تحدٍّ لحياة ملأى بالفوضى والاحتمالات اللا نهائية التي لا يمكن التنبؤ بها، والكتابة على سحرها وسخائها تملك وجهاً قاسياً لا يعرفه إلا الكاتب؛ فهو يعيش حالة ضياع كلما أنهى كتاباً، فبعد أن أمضى أياماً وشهوراً يحتمي بجدران الحكاية التي اخترعها وارتبط بشخصياتها وأمكنتها، يكون عليه أن يضع بنفسه النهاية، ويخرج منها وحيداً، فينتابه شعور مرير بالفقدان والغربة كمن ودّع حبيباً أو فارق وطناً».

وحول أهم المشجعين لها، قالت: «أمي التي يسحرني فرحها البري، ودهشتها التي لا تفتر عذوبتها كلما قرأت ما أكتب، وهي أيضاً كانت السبب في دخولي عالم الحكايات في عمر صغير؛ فقد كانت تعمل أمينة مكتبة، وتصحبني معها في العطل المدرسية، ومازالت ذكرى تلك الرفوف الملأى بالكتب تثير القشعريرة في جسدي كلما تذكرت ذهولي أمامها، وكيف أنني بمجرد ما كنت أمدّ يدي إلى أي رف وأختار كتاباً ما، أدخل عالماً ساحراً لم أعرف أنه موجود من قبل. وبين رفوف تلك المكتبة تكوّن وعيي الأول بالحياة بينما أقرأ حكايات الجنيات الطيبات والأميرات والنهايات السعيدة. وما لبثت أن انتقلت إلى قراءة أعمال أكثر نضجاً لم أفهمها في ذلك الوقت، لكنها رسخت في ذهني، مثل أعمال: "غادة السمان"، و"نجيب محفوظ"، و"إحسان عبد القدوس"، ولاحقاً عندما زاد حجم مكتبتي، تعلمت ألا يكون لديّ كاتب مفضل، بل كتاب مفضل».

بائعة الكلمات

وحول دورها كروائية وإنسانة، قالت: «الدور الوحيد المتاح أمامي هو ألا أتوقف عن الكتابة، وأن أحوّل تنهيدات من أمر بهم إلى حكايات، وأبقي عيني دائماً على أشياء الحياة الصغيرة، وعلى الإنسان بعزلته وهشاشته وأحلامه الأكبر من الحياة، والأهم أن يبقى الحب بطل حكاياتي، بوصفه الوعد الوحيد بالخلاص، وموته هو موت لكل ما هو نبيل وحي في الإنسان، وثمة أوقات تتغلب فيها خيباتي الشخصية عليّ، وخيبات بلدي الذي لا أستطيع بحال من الأحوال أن أفصل نفسي عن يوميات الموت والدمار التي تحدث فيه، وحينها إما أن أشعر بأنني خاوية تماماً وأعجز عن الكتابة، أو أنغمس فيها لكونها مبرراً نبيلاً ومقبولاً أمامي وأمام الآخرين لرغبتي بالعزلة والانزواء. وأتمنى أن أتعلم كيف أكون أكثر صلابة، فثمة طفلة خائفة وغير آمنة تصحو داخلي كلما تلقيت ضربة من ضربات الحياة، وآمل أن تكبر وتتعلم كيف تعتني بنفسها».

أما عن مشاركاتها والندوات التي كرّمت فيها، فتضيف: «أول وأهم تكريم لي كان باختيار مجموعتي القصصية "القمر لا يكتمل"، التي طبعتها وزارة الثقافة السورية من قبل مشروع "رواة المدن"، الذي تبنته معاهد "غوته" في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لتكون ضمن خمسة أعمال مثّلت الأدب السوري الشاب في معرض "فرانكفورت" للكتاب، حيث تمت ترجمة القصص إلى اللغة الألمانية. أما بالنسبة للنشر، فأنا أنشر بصورة دورية في صحيفة "الأخبار" اللبنانية، ومجلة "الموجة الثقافية" التي تصدر في "المغرب العربي" و"باريس" باللغتين العربية والفرنسية، إضافة إلى دوريات عربية أخرى. ولدي مجموعتان قصصيتان، هما: "وأخيراً ابتسم العالم"، و"القمر لا يكتمل"، وروايتان، هما: "بائعة الكلمات"، و"أحضان مالحة". وأعمل حالياً على رواية تتناول قصة حقيقية جرت أحداثها في الخمسينات من القرن الماضي».

القمر لا يكتمل

الكاتب والمخرج السوري "منصف حمزة" تحدث عن تجربة "ريمة" بالقول: «يميزها أسلوبها المتفرد باقتناص الحالة الإنسانية العميقة للأشخاص العاديين الذين نعيش معهم، ثم تظهير تلك الحالة من خلال لغة دقيقة التوصيف وأنيقة حدّ الإبهار، فهي لا تقدم سرديات عادية لأحداث هوليوودية درج عليها كتّاب ما بعد الأزمة، وإنما تأخذك من خلال شخوصها إلى ذاتك العميقة التي لا تراها أغلب الأحيان، وإذا حالفها الحظ بإعلام نزيه وجيد ستكون من روائيات الصف الأول في العالم العربي».

أما الشاعر المغربي "محمد مقصيدي" رئيس تحرير مجلة "الموجة الثقافية"، فقال عنها: «تمتاز الكتابة لديها بتلك الدهشة التي تأخذ القارئ في سفر عميق لا نهائي داخل الذات؛ إذ لا يمكن أن يحدث وتمرّ على البناء السردي من دون أن تتوقف كثيراً بين جمل النص لتأخذ أنفاسك، بل تعود إلى الوراء لتكرر ذات الطريق حتى تستزيد متعته، فهي تولي في كتاباتها أهمية قصوى لجمالية اللغة، ليس فقط باعتبارها أداة ووسيلة، بل لكونها مكوّناً ضرورياً في الكتابة الإبداعية، فتعتمد جملاً قصيرة بعيدة كل البعد عن الحشو أو التكرار، واضعة كل كلمة بعناية فائقة في النص، وحكاياتها لا تعتمد الأدوات الكلاسيكية أو المفاهيم، حيث يختفي الزمن بطريقته الخطية المعتادة في السرد ويتلاشى المكان، وتتداخل العلاقات حتى يصير جسد السرد هلامياً يصعب القبض عليه، وهي تكتب النثر بطريقة شعرية مكثفة، مستعملة الصورة واللا متوقع، وتكسير أفق انتظار القارئ، واستثمار كل مكونات القصيدة الحديثة لكتابة نصها النثري».

أما الروائي "جمال عبد الرحيم"، فقال: «سافرت معها في بداية مشوّقة لرواية "بائعة الكلمات"، وقد أسلمتني لمتاهات مفعمة بأحاسيس الألم والأمل، لأقوم بتأجيل كل أعمالي ليوم كامل حتى انتهائي من ارتشاف رحيق الكلمات حدّ الثمالة، حيث إنها تمتلك قلماً ساحراً لن تفلت من براثنه لحظة، ولن تنسى كلماتها مهما طال بك العمر».

بقي أن نذكر، أن "ريمة راعي" خريجة كلية الهندسة الميكانيكية، وعملت لمدة سنتين في مجال التدريس، ثم تفرغت للعمل في الصحافة لشعورها بالانتماء إليها، وهي من مواليد "طرطوس"، عام 1978.